أمل المكي –
في أرض قاحلة ما خارج دائرة الزمن، يمشي رجل يلتحف السّواد جارّا خلفه مجرفته في ضيق. يعلو صوت طقطقة الحجر والحصيّ تحت وقع أقدامه المتثاقلة ومجرفته المتكاسلة. بعد مسيرة دقائق، يتوقّف رجل السّواد قرب آخر جالس قبالة صخرة يحرّك قطع الشطرنج كما لو كان يعيد خلق الكون. يشرع الرّجل الأوّل في الحفر فيما يواصل الثاني تحريك “العالم”…
“هشام بوزيد”، شابّ تونسي احترف التمثيل. يجلس بجسده النّحيف قبالة الصخرة تلاعب أصابعه النّحيلة قطع الشطرنج فيما شعره الّذي غزاه الشيب يتطاير في الهواء غير مبال بقواعد “الاستيتقيا” الدنيوية.
تتحرّك قطعة الشطرنج فتنبعث حياة. تسقط قطعة على الأرض فيموت جنين في بطن أمّه. لا صراخ الأمّ يوقف النهاية ولا مجرفة رجل السّواد تتعاطف مع بكاء الجنين الذي لم يولد بعد. القبر مفتوح ينتظر نزيله. والعالم الّذي تتلاعب به أنامل هشام متسارع الأحداث لا يهوى محطّات الانتظار.
16 دقيقة هي عمر شريط “EIDOS” الّذي عرض البارحة في قاعة الرّيو في إطار أيّام قرطاج السينمائية. كتب سيناريو الفيلم وأخرجه رامي جربوعي، الّذي سبق له التتويج بالجائزة الدولية الكبرى لمهرجان الفيلم بالهاتف الجوّال بباريس عن شريط شربة أو Soupe.
في EIDOS يتقاطع الواقعي بالخيال المغرق في التخييل. ثنائية الولادة والموت، الرقص فرحا بالحياة والصراع من أجل البقاء، عبثية الوجود والبحث الدّائم عن المعنى، قتل الآخر وموت الأنا.
في 16 دقيقة يخرج رامي الجربوعي دورة الحياة الإنسانية من دائرة الموت المؤجّل ليعيد هشام بوزيد تدويرها بأصابعه العابثة فوق رقعة الشطرنج كما لو أنّه إله مهووس بالهدم وإعادة البناء.
في EIDOS مشهد يرتقي إلى مرتبة الإبداع الإلهيّ، عندما يقتل رجل السّواد رجل الشطرنج باستخدام المجرفة… يلقي بالجثّة داخل الحفرة، ويدير لها ظهره شارعا في خلع تنكّره.
لم يكن رجل السّواد والمجرفة سوى نسخة مشوّهة من رجل الشطرنج الّذي يحرّك مشاهد الشريط كأنّه إله. قتل الرّجل نفسه… خنق أنفاسه بمجرفته كأنّه يتحرّر بذلك من سواده وظلمة روحه…
بالمجرفة، قتل الإله نفسه. وغير بعيد عن قبره، يلوح ظلّ رجل يتّشح السواد واعدا بجولة شطرنج جديدة تحرّك فيها أنامل الممثّل النحيلة قطع الكون وتسقطها ليموت إله ويعيش آخر عند كلّ “كش ملك”.