أمل الصامت –
كشمس أشرقت في السماء بعد غيم مطر لتعكس عليها ألوان قوس قزح المشعة بالحياة، أطل الفنان التونسي الشاب حسان الدوس على الركح ببدلته الذهبية مرفوقا بمجموعة من الراقصين اليافعين النابضين بالأمل والكاسرة حركاتهم لكل قيد توقا للحرية، مشهد لا يمكن للروح أن لا ترقص أمامه بين الضلوع فتتسارع على وقع حركاتها نبضات القلب وتضخ الدماء بغزارة في العروق احتفاء بعودة الهيبة لمسرح دنسته أيادي العابثين من أشباه الفنانين بتعلة “هذا ما يطلبه الجمهور”.
الدوس الذي اختار لعرض مساء الجمعة 10 أوت 2018 على مسرح قرطاج، عنوان “الكرنفال” بدا وكأنه حمامة سلام نثرت بجناحيها نسائم الفن بأنواعه رقصا وعزفا وغناء، رافقتها كلمات عميقة على بساطتها توجه بها “التينور” التونسي لجمهوره الذي أبهره حضوره الغفير ولم يكد يصدّق أنه لبى النداء بهذا الكم وهو الفنان الشاب الذي لم يأت من الغرب أو الشرق بل من تونس فكيف يمكن أن يكون فنان “شباك”.
هذه الفكرة التي يبدو أنها أثرت على عقليات أغلب القائمين على برمجة المهرجانات التونسية وعلى رأسها مهرجان قرطاج الدولي، حتى أصبح المثل الشعبي “قنديل باب منارة ما يضوي كان على البراني” حقيقة تعكسها أغلب العروض المبرمجة لدرجة يُسأل أحد الفنانين عن الاستراتيجيته التي قدم بها إلى قرطاج فيجيب أنه جاء ليمرح مع الجمهور، وهو الجاهل أن قرطاج لصنع الأمجاد لا للّهو والنطّ والغناء على طريقة “البلاي باك”.
ولعل أبرز ما نجح فيه الدوس في عرضه الكرنفالي بامتياز إثبات هذا الأمر، ورغم أن صوته المصنف من أعلى الأصوات الرجالية في المجال الوسطي للموسيقى الكورالية خانه في بعض المواضع لسبب أو لآخر فإنه استطاع شد الجمهور المتنوع على جميع الأصعدة، إلى آخر لحظات العرض، ليرج المكان على وقع نغمات نجم السهرة وحركاته الثابتة دون إغفال الجمالية والحركية اللتين أضفاهما كل من الراقصين والعازفين المرافقين له على “الكرنفال”.
لم يقتصر الركح في عرض الدوس على المساحة الأمامية كما جرت العادة في أغلب العروض بل كان كل المسرح، باستثناء المدارج والكراسي طبعا، ركحا، فهناك على الصخرة اليمنى كانت تطل بين وصلة وأخرى راقصة تركت بدلتها الشرقية لنسمات الصيف فرصة لمداعبة خصرها بنعومة حركاتها الانسيابية المتناسقة مع نغمات الموسيقى التي قدمت المختلف في كل مرة، يقابلها على الجهة اليسرى راقص وكأنه تلحف بكل ألوان الحياه الموجودة على الأرض وراح يبث في الحاضرين من روحها يمنة ويسرة، تتوسطهما شاشة عكست مؤثرات ضوئية ولا أجمل.
منبر عال غطى مدخل الركح وكان لأكثر من مرة مقصد الدوس عبر درج بدا وكأنه سلمه إلى المجد يعتليه فينتشي لينفخ من روحه تلك النشوة في الحاضرين، ويعود “طاير” على المسرح لا تكاد رجلاه تلمسان الركح خاصة إذا حان دور لوحة راقصة مع مجموعة من الشابات والشبان، تخال على وقع خطواتهم أنك بعثت من جديد في زمن دينه الحرية ومذهبه السلام.
أجواء أضفت عليها ملاكان جميلتان كانتا مفاجأة حسان الدوس في كرنفاله، لمسة براءة وعفوية لا يمكن إلا الاستسلام إليها استسلام الطفل لمداعبة يد أم على رأسه، لتصبح “الدنيا حنينة” فعلا مثلما غنت الفتاتان. وبين رقة البيانو وصخب القيثار حلّق الحاضرون في سماء “تونس شامخة”.
وبقبلة على جبينها قبيل انتهاء العرض الذي استمر لساعتين، قدم حسان الدوس أمه لجمهور قرطاج ليهديها وكل الأمهات الحاضرات أغنية “يا ولدي” التي شاركته في تأليفها، وكأنه يشكرها على منحه فرصة عيش “أسعد لحظات حياته”، وهي التي آمنت بموهبته منذ الصغر وساعدته على صقلها ليكون من بين أفضل أصوات “التينور” في تونس.
الدوس الذي غنى لحب الأم والابن والوطن والحياة والحرية والحبيبة، وقدم نفسه في حلل مختلفة فكان المطرب والعازف والراقص والممثل، نجح من خلال رؤية اخراجية جديدة في تقديم عرض أقل ما يمكن القول عنه إنه يليق بمقام مهرجان في عراقة مهرجان قرطاج الدولي مهما اختلفت الأذواق الموسيقية والرؤى الإدارية.