“قصر السعادة”.. في معنى أن تقف على ناصية “الوهم” وتقاتل

يسرى الشيخاوي-
 
المسرح رسالة حمّالة معان، ذبذبات تصدر عن أرواح الممثلين فيتلقّاها الجمهور ويحوّلها إلى نشوة مزاجها من فرح  أو ترح أو كلاهما معا، المسرح تعبيرات جمالية عن أفكار ورؤى، المسرح امتداد للخلق فيه بعض من روح المخرج وروح الممثّلين وصدى  أوجاع الواقع.
 
فلا معنى للواقع، إذ هو لم يُبعث في روح كيان يحمل بعض جيناته لكنّه لا يشبهه كثيرا، كيان قد يكون كلمة او حركة أو ضوءا أو صمتا أو ظلمة أو نفسا او آهة أو خطوة أو إيحاءة أو ابتسامة أو دمعة، ولا معنى للواقع  إن لم تقم الثورة على شفاه، ثورة ليست إلا تعبيرات فنية كافرة بالمألوف، تعبيرات مزاجها من اختلاف.
 
من الصعب أن ترضى بالواقع على حاله ولكن الأصعب ان تعيد تشكيل معنى جديدا لهذا الواقع لمغاير لما هو موجود ولكنّه لا ينفيه أو ينكره بل ينهل منه ولا يسير معه على نفس السبيل، وليس المسرح سوى تمرّد على واقع ينطلق منه ليعود إليه بقراءات أخرى، قراءات قد تجعلك في مواجهة سجال لا ينتهي بين الحقيقة والوهم مثلما هو الحال في مسرحية "قصر السعادة" للمخرج نزار السعيدي.
 
فلسفة أخرى للفعل المسرحي، تطالعك تجلّياتها منذ أن تملأ الموسيقى أخاديد الصمت على ركح قاعة الفن الرابع، وتواجهك الشخوص بارتباكها وحركاتها المفعمة بالحيرة، وأنت ترقب خطوات الممثلين على المسرح وتتفحّص خطواتهم يتلبّس عليك الوهم بالحقيقة.
 
على إيقاع كسر الجدار الفاصل بين الوهم والحقيقة تتوقّف عقارب الزمن الحقيقي عن الدوران، ويتملّكك الزمن المسرحي وتتغير التقويمات ودون ان تشعر تسقط كل الأحداث عليك، وفي الطريق إلى " قصر السعادة" تفقه معنى أن تقف على ناصية " الوهم" وتقاتل، معنى ألّا تستسلم حتّى في الخراب الأخير.
 
وبين "قصر السعادة" عنوان المسرحية باللغة العربية و"Illusion" باللغة الفرنسية وتقابلها مفردة وهم في اللغة العربية، يفصح العمل المسرحي عن بعض ملامحه وكأن مخرجه وكاتب نصّه أراد أن يقول أن السبيل إلى "قصر السعادة"  لا يخلو من "وهم".
 
أسئلة كثيرة يثيرها فيك العنوان، وتتشابك في ذهنك مفاهيم السعادة والوهم، وتتواتر الأجوبة على خشبة المسرح وتتسارع وتيرة تولّدها عن بعضها البعض كلّما زادت حدّة الضوء على المسرح أو خفتت حدّ التلاشي، حتّى أنّك تُعرض في كل مرة عن الأجوبة لتعود حيث كنتَ، إلى مربّع الأسئلة.
 
صور وأصوات تتعاقب على الركح، بعضها واضح وبعضهما غامض، بعضها يسير بك في اتجاه واحد وبعضها يوزّعك دون عدل في اتجاهات كثيرة وبعضها يشلّك فلا تقدر على التزحزح من مكانك، ومن نقطة الإدمان تتفرّع مسارات كثيرة  تتجاوز الزمان والمكان حتّى تصير جزءا من الجسد والكينونة.
 
مرّة أخرى يقتحم المخرج نزار السعيدي عوالم المهمشين والمنسيين أولائك الذين يملأون أخاديد حكاياتهم بالنور الوافد عليهم من الخارج ويلفونها بالظلمة، ومن هذه الظلمة ينسجون دروبا يزرعون فيها بعض الثقب لعل النور الكامن في الدواخل يتسرّب منها إن هم أرادوا.
 
على الخشبة، ارتسمت عوالم مختلفة للإدمان تمتد من الذاتي إلى الموضوعي ويتلبّس فيها الوهم بالحقيقة وتنزف فيها الإنسانية على وقع اللامبالاة، فالمخدّرات باعتبارها  آلية لصناعة الوهم وتشكيل سعادة عرضية ليست بصفاء ذلك السائل الشفاف الذي يسقي به المدمن عروقه عن طريق إبرة ولا بنقاء ذلك الدخان المتسرب من سيجارة " الزطلة".
 
وبين خلق وهم يتأرجح بين السعادة واللذّة ووأد حقيقة تراوح بين الوجع والألم، يشيّد المدمن على المخدّرات جدرانا بلا عمد يخالها قصرا يستكن إليه كلّما أرهقته ذاته الموجوعة، وفي الواقع ليس المدمن على المخدّرات فقط هو من يبني جدران الوهم تلك، حتى المدمن على الأمل والحلم أيضا قد يعانق العراء ، في بلد الأحلام والأمال فيه محدودة.
 
الاطر التي تحدّدها النظم السياسية والاجتماعية، والقيود والحدود التي تطالعك حيثما ولّيت وجهك، الوصايا والمواعظ والكليشيهات والمسلّمات والحتميات والقوالب الجاهزة واللاءات، كانت حاضرة على الركح لتعرّي علل مجتمعات تقتات الوهم.
 
ليس من السهل تجسيد الوهم على الخشبة، فالوهم مفرد في صيغة الجمع يتلوّن ويتغيّر حسب السياقات والشخوص والازمنة والأمكنة، لكن القدرة التعبيرية لأجساد الممثلين صاغت هذا الشعور بصدق يقود إلى الارتباك مع كل حركة وإيماءة، مع كل معنى جديد.
 
أما عن النصّ الذي خطّته انامل نزار السعيدي، فمحتواه كالسراب يبدو لك من بعيد واضحا شفّافا لكنّك كلّما اعتقدت أنّك دنوت من المعنى الحقيقي تفرّعت بك السبل إلى معاني أخرى، حتّى أنّك تتبنّى هذا النص وتسائل نفسك وتبحث عن أثر الحد الفاصل بين الوهم والحقيقة في حياتك.
 
وبعيدا عن السرد المسرحي، تشكّلت على  الركح معان جمالية كان التفاعل بين الممثلين عنوانها الأبرز، إذ ليس من السهل إيجاد كيمياء خاطفة بين مسرحيين من أجيال مختلفة، كيمياء أجّجتها مداعبة خيوط الضوء لتفاصيل أجساد مسكونة بالمعاني .
 
جمال ساسي وانتصار العيساوي وآمال كراي وحمودة بن حسين وعلاء الدين شويرف وفاطمة عبادة، ممثلون انتقلوا بين وضعيات درامية مختلفة، ليصوغوا في كل مرّة أحداثا وشخوصا مختلفة ويسرّبوا للمشاهد "ترياق" الوهم، فيغوص معهم في تفاصيل جديدة عن الإدمان.
 
ضياع وشتات وانهيار طرق بلا منفذ ومشاعر في مهب الريح، بعض عناوين الوهم التي صاغها الممثلون  من خلال مقاربة تفاعلية وسمت الانتقال من مشهد إلى آخر، على ايقاع لغة الجسد والأداء الإيمائي والحركية التي تتبدّل وتتغيّر بتغيّر درجات الضوء.
 
شخصيات بلا أسماء، باستثناء "شبيب" و"العجوز" وفيهما تدليل على مرحلتين عمريتين وربّما حالتين أو أيضا هوّة بين جيلين طمرها وهم السعادة، بعضها ادمن على المخدرات وبعضها أدمن على الحلم والبعض الآخر أدمن على الواقع، لكل حقيقته الخاصة به ولكل منهم وهم لا يتلاشى.
 
ضحايا كثر للإدمان، بعضهم لم تذهب عقولهم بمخدّر ولكن يد الأخطبوط امتدّت إليهم، حتّى أنّها خنقت الأمل في روح من أراد تغيير واقع المدمنين فأعاقته البيروقراطية وأشياء اخرى، فغدا يصارع نفسه أو ربّما طواحين الهواء فلا أحد يمكن أن يتوقّع ما يخفيه الوهم من أصوات وصور.
 
اغتصاب أب لابنته، بعد ان انفرط عقد العائلة، سجن تلميذة في الباكالوريا، وطرد تلميذ من المعهد، بحث عن ملامح الموت، عند " قصر السعادة" أو على مشارف "وهم" تشكّل على  قارعة الإدمان، فشحن أجساد الممثلين بلغة امتزجت فيها الحركة بالصوت وتولّدت عنها مشاهد كوريغرافية بثّت فيها ملاك زويدي من روحها.
 
إشارات تعبيرية كثيرة نثرتها أجساد الممثلين في محاكاة لظاهرة متشعّبة، والمعنى الذي يكمن في الأجساد يتوضّح ويتفرّع عن معاني أخرى إذ هو التحم بالموسيقى التي أوجدتها رانيا الجديدي والسينوغرافيا التي شكّلها صبري العتروس  والإضاءة التي اتخذت منحى آخر.
 
أما الموسيقى، فتشدّك حينا إلى الحقيقة وتلقي بك حينا آخر في غياهب الوهم، فهي ليست بمعزل عن الوضعيات الدرامية والحالات الانفعالية للشخوص المتبدّلة المتغيّرة وفق نسق الضوء الذي بدا وكأنه "جسد" قائم الذات على خشبة المسرح.
 
وإن كان المخرج هو ولي الضوء وسيّده، فإنّ الممثلين في "قصر السعادة" حرّكوا الضوء في كل الاتجهات، اغمضوا أعينهم حينما أبهرهم وتحسسوا أثره إن أخفتوه وفتحوا مآقيهم إن هو أدبر، وما أشبه تفاعل الجسد المسرحي مع الضوء المبهر بوضع الرضيع الجديد الذي يغمض عينيه عن كل ضوء ما إن يغادر بطن أمه ثم يصادقه شيئا فشيئا ومن هناك تتنطلق جدلية الوهم والحقيقة.
 
إلى جانب الموسيقى والإضاءة، لم تخل السينوغرافيا من دلالات ومعان، فتلك الكراسي التي تتناوب عليها شخصيات المسرحية ليست إلا جزءا من الوهم، فقد يخيّل إليك أنّك بمنأى عن "الخطر" أو أنّك " مجرّد متابع لن تظرّك الآفات المجتمعية في شيء ولكن الكراسي التي تتخلّى عنها الشخصيات في كل مرّة تقوّض هذه التخيلات وتتسلّح بالحذر.
 
أما "الميكروفونات" التي صدحت فيها الأصوات بالهمهمات والآهات والصرخات وأشياء أخرى مبهمة فربّما تحيل إلى تلك الخطب التي لا تسمن ولا تغني من جوع أو إلى الأصوات المنادية بالإصلاح، وفي الأضواء المبهرة التي حرّكها الممثلون على الركح دعوة إلى الالتفات إلى الضفة الأخرى، حيث المنسيون.
 
و"في قصر السعادة" يعرّي الضوء الوهم ويرقص الموهومون على إيقاع صرخاتهم المكتومة فتتشظّى المعاني وتسري في الأجساد التي تؤويها كما يسري الدم في العروق، وفي غمرة الصراع بين الحقيقة والوهم يزدحم الأثير بالأصوات والصور فتترك ندوبا تقطر دما ومعنى، وكلما عانق الدم الثرى تشكّلت مشاعر تزينها التناقضات.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.