في يومها العالمي: الصحة النفسية للصحفي “ماردٌ ممسوك في مصباح الحبّ العظيم”

نورة الشنيتي_

بات واضحا وجليا أن تتالي الأزمات والحروب  والأوبئة خلال السنوات الأخيرة قوضت الصحة النفسية لدى الملايين حول العالم وساهمت في إرتفاع حالات القلق والإكتئاب وفق ما أكدته منظمة الصحة العالمية، ليتم هذه السنة  رفع شعار “جعل الصحة العقلية والرفاهية للجميع أولوية عالمية”إحتفالا باليوم العالمي للصحة النفسية وذلك بهدف زيادة الوعي حول قضايا الصحة النفسية، والعقلية في جميع أنحاء العالم، والتعريف بمخاطر التوتر النفسي، وعلاقته بالأمراض الأخرى، وحشد الجهود لدعم الصحة النفسية والعقلية فهي حسب منظمة الصحة العالمية باتت حق أساسي من حقوق الإنسان.
 فهل يتمتع الصحفي بهذا الحق ؟

إن "الصحافة ليست مزحة على الإطلاق , إنها مسدس محشو لا أمان له، مصوب على رأسك الى الأزل " هكذا يعرفها الصحفي والشاعر السوري هاني نديم فإن كنت "لا تملك قلبا جريئا بما يكفي لكل التفاتة ستفسد الأمر".
ويشترط جرأة القلب لنجاح الصحفي هذا القلب الذي ستنهكه الصحافة بما ينتج عنها من توتر وقلق وخوف وانتظار وإحباط وخيبات.

ولكل مهنة متاعبها وضغوطها التي تؤثر سلبا على نفسية صاحبها ولعل "مهنة المتاعب" كما يطلق عليها من اكثر المهن  التي تسبب إرهاقا لصاحبها إذ يجد الصحفي نفسه حاملا لهموم الناس ومشاكلهم ولا يستطيع نزع جلباب الصحفي حتى في فترات راحته، فهو مجبر على التعايش مع ما  تفرضه هذه المهنة من ضغوطات نفسية تستنزف طاقاته وأعصابه الى درجة أنها قد تؤدي الى ما يسمى "الاحتراق النفسي،" فيصبح الصحفي غير قادر على التعامل مع أي ضغط اضافي.
وهذه المهنة تستهلك كل وقت صاحبها فتجبره على متابعة الأحداث بإستمرار ليكون دائما على أهبة الإستعداد لكافة المستجدات التي قد تطرأ من حوله فأكاد اجزم  أنها تلازمه حتى في أحلامه أثناء النوم، فالصحفي لا يملك وقته فمنذ دخوله هذا المجال  فقد تنازل عن قسط كبير من وقته وراحته وخصوصيته  فهو موظف بدوام كامل طوال اليوم وكافة أيام الاسبوع وفي العطل والمناسبات.  
مهنة قاتلة وأثارها النفسية مدمّرة حتى في أفضل ظروف العمل
هكذا هي علاقة مهنة الصحافة بالصحة النفسية كما يراها الصحفي نبيل الشاهد إذ يعتبر ان موضوع الصحة النفسية ليس مجالا للتندّر و لا للتجاهل أبدا خاصة بالنسبة للصحفيين.
والصحافة هي مهنة قاتلة بأتم معنى الكلمة و أثارها النفسية مدمّرة حتى في أفضل ظروف العمل فما بالك في وضعيات هشة ولا مجال للخجل من التعاطي مع المشاكل النفسية و حالات الاكتئاب و غيرها من النتائج المباشرة للضغط اليومي و للكم الهائل من الأخبار السيئة و البيئة المهنية السامة وفق تعبيره.
 هي مهنة تستنزف  أصحابها نفسيا وتغير طبائعهم وتدمر معنوياتهم فبإلقاء نظرة بسيطة على حياة الصحفي ستكتشف ان اخبار المآسي والكوارث والحروب تستحوذ على الجزء الاكبر منها فبأي آليات دفاعية يمكنه مواجهة كل هذا الكم من الإحباط والفشل والالم .
وبات الصحفي بإعتباره  كائنا مسكونا بهموم وطنه ومشاغل الإنسانية هشا نفسيا فعدم الإستقرار السياسي يشغل باله وصور الحرب الدائرة في  أقاصي الكرة الأرضية تحتل تفكيره طول الليل وتؤرق منامه.
ولن تعود كما كنت قبل أن تختار هذه المهنة !,وبإستثناء الباحثين عن الشهرة, فمن يعمل في هذا المجال سيفقد جزء كبير من إستقراره النفسي وصحته العقيلة أثناء البحث عن الأخبار والتدقيق في مصادرها ونقل الشهادات وكتابة القصص الصحفية .
سيترك الصحفي اثناء سيره في رحلته المهنية الكثير من إتزانه وتلقائيته وإدمان التفاصيل سيفسد علاقاته وتقلب مزاجه سيدمر ما تبقى من صداقاته أما إنشاغله الدائم سيجعله يخسر الكثير من الاوقات  العائلية السعيدة، وتواريخ الحروب والصراعات تأخذ مكان تواريخ أعياد ميلاد أفراد عائلته وصور السياسين والرؤساء تملأ ذاكرة حاسوبه وأرقام المسؤولين تعوض أرقام الأقارب.
قارنوا طباعكم و نفسياتكم قبل أن تدخلوا هذه المهنة و بعد سنوات من العمل و ستلاحظون الفرق الهائل دعوة يطلقها الصحفي نبيل الشاهد للصحفيين للإنتباه الى هذا المارد  الذي يلتهم سنوات حياتهم وهو التوتر والضغط النفسي.
ولعل السبيل الى إنقاذ ما تبقى من  صحة الصحفي النفسية يكون بتغيير العادات  اليومية و فرز العلاقات و تنظيف المحيط  وتخفيف هذه الأثار المدمّرة قدر الإمكان وفق الشاهد
ولكن قبل البحث عن طرق العلاج يجب الإنتباه الى أعراض الخلل النفسي او العقلي فهو "القاتل الصامت" والإستخفاف بالمعاناة النفسية وتجاهلها  يعمق من أثارها ويزيد الوضع تأزما فالألم النفسي لا صوت له.
مواجهة المشاعر والاعتراف بها قوة نفسية ودليلًا على المصالحة الذاتية والثقة بالنفس
ككل مشكلة  التشخيص هو اول مراحل العلاج وفي مجال الصحة النفسية الإعتراف بوجود مشكل نفسي دليل على الوعي به والسعي الى إيجاد حل له وهو ما عبرت عنه الصحفية  منية العرفاوي فكتبت "صحتي النفسية بخير… ولا شيء يثير القلق بالفعل .. نوبات اكتئاب من حين إلى أخر.. عدوانية غير مبررة في الغالب وقسوة أصبحت تعبر عن نفسها احيانا بشكل فجّ.. عدم اكتراث ولا مبالاة باغلب تلك الأشياء التي كانت تثير شغفي واهتمامي الشديد .. احيانا تراودني فكرة خوض تجربة الانتحار دون أن أجد الشجاعة للمرور إلى مرحلة التنفيذ.. مشاعر مختلطة بين الحب والضجر والقرف لكل ما حولي .. لا أهتم اصلا لمن بقي أو لمن غادر.. ولا أقف على ارصفة الوداع ابدا أو ألوح بمناديل.. كل ما أفعله اني انصرف بهدوء مع كم رهيب من الفراغ داخلي ..لا حزن في خيبة.. ولا فرح في انتصار ..يعني كما ترون يفترض ان اشكر عقلي على صموده إلى حد الآن".
هكذا لخصت العرفاوي الوضعية النفسية المعقدة لكل صحفي يقدس الكلمة الحرة ويؤمن بدور الصحافة كسلطة رابعة  فتأثيرات العمل في مجال متقلب تنعكس على نفسية الصحفي.  
وتعد سلامة النفس الداخلية أساس شخصية الفرد المؤثر في مجتمعه و إضطرابها يعني إضطراب صاحبها وفقدانه الفاعلية داخل مجتمعه.هذه النفس الداخلية التي يحملها الصحفي بين طيات قلبه المشغول بكل ما يهم البشرية إلا راحته الذاتية مما يجعل العاملين في هذا القطاع من بين  الاكثر عرضة الى نوبات الإكتئاب ومحاولة الإنتحار فوسط بشاعة اخبار الصحافة وعناوينها المفزعة وامام الصور المدمرة للحروب الطاحنة وماسي الشعوب ومشاعر الإحباط والفشل.
لا أحد سيلاحظ نوبات الأرق المتكررة  التي يعانيها  الصحفي ولن يحاول أحد معرفة سبب تغير نبرة صوته  وجنوحه أغلب الأوقات الى الصمت  لن يفهم أحد أنه متعب وانه لم يعد قادر على تحمل المزيد من الضغط الكل يشاهد  الصورة الخارجية ويحسده على قربه من اصحاب السلطة والمشاهير و يخيل لهم انه يتقاسم معهم سعادتهم المزيفة .
لكن لا احد يعلم ان  الصحفي مجبر على تحمل السياسي الفاسد ونقل أخباره فقد يطلق تصريحا أخرق يثير جدلا فيضطر الى الجري وراء ردود الفعل التي خلفها او قد يفرض عليه نقل خبر أعمال خيرية لأحد  مشاهير  الصدفة وهو على يقين أن ما يقوم به مجرد مسرحية للتغطية على مصادر أمواله الفاسدة  فالخبر مقدس هذه قاعدة العمل الصحفي….
كل هذه المتناقضات تتخذ من عقله مسكنا لها  وكل هذه الصراعات تستوطن قلبه حنى تتحول إبتسامته الى حركة ألية يطلقها في وجه  الجميع.
ورغم كل هذه التضحيات فهو معرض الى شتى انواع الإعتداءات أثناء ممارسته لعمله فقد إرتفعت  موجة العنف ضد الصحفيين و تعالت أصوات الكراهية وباتت حياته مهددة
فعن أي صحة نفسية يمكن الحديث ؟وما السبيل الى المحافظة على ما تبقى منها؟
سؤال يجيب عليه رئيس تحرير Forgood والصحفي الثقافي هاني نديم ,فالصحة النفسية حسب مفهومه " تعني الحبّ في نسقها المضمر. لا يمكن لأي اعتلال أن يأتي إلا من الكراهية. أما الحب.. "يا عيني عليه."
 فيشبهها بامرأة ترى سريان الدماء في قلبها وهي تحدثك ,وقد تكون صديقٌ تشعّ عيناه حينما يراك وتنهمر روحه,او إنها مصطبة اعتدت أن تجلس عليها وزاوية تحبها وتحبك.
فيلخص الصحة النفسية بحالة الحب التي يعيشها الفرد بعلاقة بمحيطه وفق تمثلاته,
فالصحة النفسية تكمن في البحث عن كل التفاصيل التي تحبها فهي ليست وصفة جاهزة يمكن ان يقدمها لك طبيب ولكنها كالسعادة تجرية ذاتية فإبحث عن شغفك وما تحب وستجد راحتك النفسية وستحافظ عليها.
 فهي دعوة مطلقة للحب "أحبّ الوجود ليحبك، أحب نفسك التي بين جنبيك لتحتمل كل تلك الفظاظات والمناقص". 
فهي  "ماردٌ ممسوك في مصباح الحبّ العظيم..هو فقط من يعرف الطلسم العظيم أيضاً. وهو قطعاً من يطلقه" على حد تعبير الصحفي هاني نديم 
 يتشارك كل الصحفيين في متاعب المهنة وظروفها  ومخلفاتها النفسية إالا أن الخلاص يكون فرديا ذاتيا  عبر البحث عن مكامن الحب داخل كل واحد والتخلص من كل الشوائب التي تعكر صفو راحته النفسية. 
قد يبدو الأمر صعبا ولكن الإستسلام  الى خيبات المهنة وإحباطها والغوص في هموم الناس ومشاكلهم قد يقضي على حياة الصحفي ويدفعه الى تنفيذ فكرة الإنتحار التي تسيطر على عقله منذ أول سنة من عمره أنفقها في سبيل صاحبة الجلالة ففقد أول بذور سعادته وأضاع طريق العودة الى طبعه.
فالتوتر والقلق والاكتئاب يؤثر بشكل كبير في الصحة العقلية كما أن الوصول إلى التوازن النفسي، والجسدي مع مؤثرات الحياة له دور كبير في الحفاظ على الصحة العقلية وبالتالي الاستمتاع بالحياة.
ورغم أخبار الفقر والحرب التي تأكل ما تبقى من صحة  الإنسانية النفسية يبقى الحب هو الملجأ الأخير وهو السيف الذي تحارب به من أجل الحياة، والجميع يختبئ في ملجأ الحب .

 

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.