بقلم: أحمد بن مصطفى، سفير سابق مختص في العلاقات الدولية
أكد الأستاذ الصادق بلعيد، المشرف على كتابة الدستور الجديد، في مداخلاته الصحفية العديدة، ان الجانب الاقتصادي ومنوال التنمية كانا في صدارة الأولويات لدى اعداد المشروع الاولي للدستور الذي تسلمه رئيس الجمهورية بتاريخ 20 جوان، وقد أعلن الرئيس ان هذه المسودة ليست نهائية مضيفا ان الصيغة المزمع عرضها على الاستفتاء ستنشر قريبا. للتذكير كان الأستاذ بلعيد قد كشف للإعلام عن التوجهات الدستورية العامة المزمع إقرارها والمحاور ذات الأولوية ومنها خاصة الملف الاقتصادي والاجتماعي.
ويستشف من تصريحاته ان التركيز على الجانب الاقتصادي جاء لتدارك ما اعتبره اهمالا من الدساتير السابقة للقضايا الاقتصادية والتنموية موضحا ان المقاربة المزمع تبنيها في الدستور الجديد "للنهوض بالاقتصاد" تقوم على توسيع مجال تحرير الأنشطة الاقتصادية امام المبادرة الخاصة وإزالة كافة التراخيص والعوائق امام المستثمرين الخواص والأجانب مع مراجعة دور الدولة والوظائف الحكومية وفقا لهذا النهج الليبيرالي.
والملاحظ ان هذه الرؤية لا تختلف عن السياسة الاقتصادية للحكومة الحالية وسابقاتها بل هي في انسجام تام مع هذا الخط وهي تعمل بنسق متسارع على تجسيده بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية وذلك في تواصل تام مع الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية القائمة على الانخراط في منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر المتبعة من قبل النظام السابق وطيلة العشرية المنقضية.
وإذا صح ان الدستور الجديد سيتبنى دسترة النهج الاقتصادي الليبيرالي المضر بالمصلحة الوطنية، والذي أدمج عمليا بالقوانين التونسية طيلة العقد الماضي تحت غطاء المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول الآليكا، والبرامج الإصلاحية مع صندوق النقد الدولي، فسيؤدي ذلك الى إضفاء المشروعية الدستورية على خيارات كان من المفترض ان تكون محل مراجعة جذرية باعتبار ان التمسك بها بعد الثورة هو الذي أدى بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بتونس الى هذا المستوى غير المسبوق من التهور والانهيار.
والحكومة الحالية تساهم في مزيد الاحتقان والتوتر بمضيها في تكريس نفس السياسات والحال انها مدعوة، بحكم طابعها الانتقالي، الى عدم الحسم في التوجهات الاستراتيجية المستقبلية الكبرى سيما وان ذلك سيفرغ الاستحقاق التشريعي القادم من أي مضمون حقيقية.
لقد سعت فرنسا والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع طيلة العشرية المنقضية الى تقنين المنظومة الاقتصادية النيوليبيرالية بسبب عجزها عن تمريرها عبر اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق ويبدو انها بصدد النجاح في دسترة هذا الخيار لجعله خارج دائرة المراجعة والحال انه يتناقض مع مفهوم الدولة الوطنية ويسعى الى تجاوزها من خلال منظومة الحوكمة العالمية الخاضعة للتجمعات والشركات الغربية المتعددة الأطراف والمؤسسات المالية الدولية الخاضعة لها.
وللحيلولة دون تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية بتونس نحو الأسوأ، بفعل الانقسامات الخطيرة التي تثيرها المقاربة الحكومية النيوليبيرالية في قضية الإصلاحات الاقتصادية والدستورية، يبدو من الاجدى ان يقع ارجاء هذا الملف الى ما بعد الانتخابات التشريعية وحصر مشمولات الحكومة الحالية في الحدود الموكولة عادة الى حكومات تصريف الاعمال.
والملاحظ ان حكومة بودن تضطلع بدور شبيه بالدور الذي اضطلعت به الحكومات المؤقتة المتعاقبة بعد الثورة بما فيها حكومة المهدي جمعة التي تجاهلت البنود السيادية لدستور 2014 المتعلقة بحماية مصالح ومقدرات الشعب التونسي ومضت في تكريس السياسات التي تخدم مصالح فرنسا وحلفائها الغربيين ما جعلهم يتحكمون فعليا في رسم الاستراتيجيات والتوجهات الاقتصادية لتونس من خلال الاتفاقيات والقوانين المعتمدة عبر البرلمان السابق بتأثير من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
التناقض بين دستور 2014 والتوجهات الاقتصادية الليبيرالية المتبعة خلال العشرية المنقضية
يجدر التذكير بان القوى الغربية و الأوروبية النافذة و المرتبطة بمصالح كبرى مع تونس سارعت بالتحرك بعد الثورة، بمعية منظومة الحكم السياسية والاقتصادية التونسية الحليفة المتحكمة بمفاصل الدولة، لتنظيم انتقال السلطة بتونس على النحو الذي يضمن الحفاظ على الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية القائمة على انخراط تونس في نظام اقتصاد السوق والتجارة الحرة، وهو التوجه الذي يخدم مصالح الأطراف المذكورة و منها خاصة فرنسا و الدول المكونة للمجموعة الاقتصادية الأوروبية التي دفعت تونس منذ الاستقلال لتبني سياسة الانفتاح التجاري و الاستثماري من خلال القوانين المحفزة للاستثمارات الخارجية واتفاقيات الشراكة والتبادل الحر المبرمة منذ الستينات و السبعينات مع المجموعة الأوروبية و صولا الى اتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية المبرم سنة 1995 بين تونس والاتحاد الأوروبي. وحرصا على استمرارية هذه التوجهات الانفتاحية الليبيرالية و الحيلولة دون التراجع عنها، تم التنسيق محليا ودوليا لضمان انتقال السلطة خلال المراحل الأولى الموالية للثورة واثناء المواعيد الانتخابية الرئاسية والتشريعية الى أطراف سياسية موثوقة ومنها الوزير الأول السابق محمد الغنوشي و الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي كان قد التزم اثناء قمة مجموعة السبع دول صناعية كبرى المنعقدة برئاسة فرنسا بمدينة دوفيل الفرنسية في ماي 2011 بمزيد تكريس سياسة الانفتاح الاقتصادي من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق وما يتصل به من برامج "إصلاحية" مشروطة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية.
وفي مرحلة حكم الترويكا كرست نفس الخيارات رغم تعارضها مع البنود السيادية الواردة في الدستور الذي كان بصدد الاعداد سيما في جوانبه المتعلقة بوظائف الدولة الراعية للحقوق والحريات والواجبات الموكولة اليها في مجال بسط السيادة على ثروات التونسيين وحسن التصرف في الأموال العمومية وتوجيهها لتحقيق التمييز الإيجابي لصالح الشباب والمناطق المحرومة وغير ذلك من الواجبات المناطة بعهدة الحكومة ورئيس الجمهورية في مجال الحفاظ على كيان الدولة والدفاع عن سيادتها.
و يجدر التذكير بالضغوطات العديدة التي مورست محليا و دوليا على المؤسسين للحيلولة دون إقرار خيارات مبدئية كبرى معارضة للنهج الاقتصادي الليبيرالي وحامية لسيادة الشعب التونسي على ثرواته ومقدراته، و نذكر في هذا الصدد بالجدل الواسع الذي اثاره الفصل 13 بسبب اقراره بملكية الشعب التونسي وسيادته على ثرواته الطبيعية ووجوبيه موافقة مجلس نواب الشعب على عقود الاستثمار المبرمة علما انه لم يقع الالتزام بهذا البند من كافة الحكومات المتعاقبة التي واصلت تجديد العقود النفطية القديمة بنفس الشروط المجحفة بحق التونسيين و كذلك الشأن بالنسبة للطاقات النظيفة و المتجددة التي يتم التفريط فيها لصالح المستثمرين الأجانب بمخالفة القواعد الدستورية بحجة انها ليست ثروات طبيعية.
وعلى صعيد متصل تم الغاء المحاذير المضمنة في دستور 1959 المتعلقة بعدم السماح لمزدوجي الجنسية بتولي المناصب العليا السيادية وهو ما فتح الباب على مصراعيه امام القوى الأجنبية وخاصة منها الغربية، للتدخل بهدف التأثير في نتائج الاستحقاقات التشريعية والرئاسية وكذلك في مراحل اختيار أعضاء الحكومة. وقد كان لحاملي الجنسية الفرنسية والبريطانية النصيب الاوفر في تولي اهم المناصب القيادية المتصلة خاصة برئاسة الحكومة والوزارات والمناصب الحساسة في البنك المركزي، ووزارات الصناعة والنفط والطاقة وغيرها. كما الغي حاجز السن في إطار الصفقات السرية بين الشيخين للسماح بترشح الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لرئاسة الجمهورية علما ان عهدته تميزت مثلما هو الحال اليوم بصراع محموم على السلطة وسعي دؤوب لتغيير الدستور باتجاه العودة الى النظام الرئاسي.
وهكذا تم الانحراف بالدستور وتعطيله لا فقط فيما يتصل ببعث المحكمة الدستورية وبقية الهيآت والمؤسسات بل أيضا في بنوده المتعلقة بدسترة الحقوق والحريات وحقوق التونسيين في التنمية وحقهم في مراجعة السياسات المدمرة لمصالحهم، هذا الحق الذي ذهب ضحية الصفقات المبرمة مع الأطراف الغربية الماسكة بالقرار الاقتصادي التونسي و تحديدا فرنسا و إيطاليا و المانيا و مجموعة السبع فضلا عن اللوبيات المحلية المتنفذة و المخترقة لدواليب الدولة وهي تتعامل مع الاطراف الحاكمة من منطلق مقايضة الدعم للاستمرار في الحكم بمواصلة خدمة المصالح و الاجندات الأوروبية الغربية على حساب الشعب التونسي.
ولهذه الاسباب لم تخضع هذه التوجهات الاقتصادية والدبلوماسية في أي مرحلة من المراحل الى التقييم والمراجعة وذلك رغم نتائجها الوخيمة على الأوضاع المعيشية للتونسيين وهو ما ساهم بقسط وافر في الانتفاضة التي ادت الى المسار الذي انطلق يوم 25 جويلية 2021. ولا شك ان التمسك بنفس الخيارات الاقتصادية خلال السنة المنقضية هو الذي جعل الظروف المعيشية للتونسيين أكثر بؤسا وقتامة وكذلك الشأن بالنسبة للمؤشرات الاقتصادية والمالية التي بلغت الحدود القصوى من التدهور والانهيار.
ضرورة الاستفادة من التاريخ الدبلوماسي والدستوري التونسي
التوجه الحالي نحو ادراج الخيارات الاقتصادية الليبيرالية بالدستور الجديد يعيد الى الاذهان الجوانب الخفية للتجربة الدستورية التونسية الاولى التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر وهي غنية بالدروس والعبر سيما وأنها مرتبطة مثلما هو الحال اليوم بظروف اقتصادية حرجة افتعلتها فرنسا الاستعمارية لبسط الاستعمار المباشر على تونس وذلك من خلال اللجوء الى توظيف نفس الآليات وهي التبادل التجاري المختل والمديونية المفرطة وتمكين راس المال الأجنبي من ملكية الأراضي والسيطرة على الثروات وعلى كافة الأنشطة المربحة. و قد تكررت الأساليب ذاتها مند الاستقلال والى يومنا هذا لإبقاء تونس في دائرة النفوذ الغربي ومنعها من تنويع شراكاتها ومن بناء علاقات تعاون دولية متوازنة.
– بعد احتلالها للجزائر سنة 1830 تضاعف النفوذ الفرنسي بتونس حيث شرعت في تثبيت وجودها من خلال المعاهدة التونسية الفرنسية الموقعة بتاريخ 8 اوت 1830 التي اقرت حرية التجارة بين الجانبين مكرسة بذلك هيمنة فرنسية متصاعدة على تونس تحولت الى شبه وصاية بعد ارغام إمحمد باي تحت التهديد العسكري الفرنسي البريطاني على توقيع "عهد الأمان" سنة 1857 وهو في الظاهر خطوة إيجابية لصالح التونسيين والمقيمين الاجانب من حيث انه اعلان لحقوق الانسان مستوحى من التجربة الإصلاحية العثمانية.
ولكن اهدافه الحقيقية كانت، مثلما هو الحال اليوم بالنسبة للآليكا، تقنين ودسترة الهيمنة الفعلية المطلقة لفرنسا على الأنشطة الاقتصادية والتجارة الخارجية وذلك فضلا عن منحها الحق في ملكية العقارات والأراضي الفلاحية وأيضا الحق في ممارسة كافة الأنشطة الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدمية. وقد ادمجت هذه الامتيازات في دستور 1861 الذي مهد بذلك السبيل لبسط الوصاية المالية ثم الاستعمار الفرنسي المباشر بموجب معاهدة 1881.
ويبدو ان فرنسا وحلفائها الغربيين يعملون على تكرار نفس التجربة اليوم عبب المؤسسات المالية الدولية الخاضعة لهم.
– اما التجربة الدستورية الأولى لدولة الاستقلال، فإنها كانت مبنية على الرغبة في التخلص من الإطار الاستعماري المنظم للعلاقات الاقتصادية والتجارية التونسية الفرنسية القائم على حرية التجارة والاستثمار باعتبار انه مناقض لمشروع بناء الدولة الوطنية التونسية المستقلة الذي اقره دستور 1959. وتجسد ت الاستراتيجية التحررية لدولة الاستقلال في اقرار النظام الجمهوري وأدرج مفهوم "التعاون الدولي الحر" ضمن المبادئ الدستورية المجسدة للسيادة الوطنية واستقلالية القرار التونسي في بناء علاقات تعاون دولية متوازنة مع الخارج. كما اقرت تونس بداية الستينات استراتيجية "الآفاق العشرية للتنمية" القائمة على إزالة الاستعمار الاقتصادي والسعي لبناء اقتصاد انتاجي وعلاقات تعاون متكافئة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية.
لكن التجربة عانت من التراجعات والعودة المبكرة الى سياسة الانفتاح الاقتصادي والتبادل الحر المختل التي ترسخت في ظل النظام السابق وبعد الثورة.
وهكذا يتبين ان فرنسا وحلفائها الغربيين يتحملون مسؤولية تاريخية في اجهاض محاولات النهوض الاقتصادية لدولة الاستقلال وكذلك الانتقال الديمقراطي والاقتصادي بعد الثورة وذلك بتدخلاتهم المكشوفة الهادفة لمنع تونس من إعادة النظر في السياسات الاقتصادية المفروضة و المضرة بالمصلحة الوطنية، لكن الامل يبقى قائما اذا تولى رئيس الجمهورية ارجاء ملف الإصلاحات الاقتصادية الى ما بعد الانتخابات التشريعية و ادخال التعديلات على مسودة الدستور باتجاه ارساء مقاربة جديدة تمهد للعودة الى مشروع الدولة الوطنية المستقلة باعتباره السبيل الأمثل لإنقاذ تونس من المخاطر الوجودية المحدقة بها. كما يؤمل ان يقع استبعاد العقيدة الاقتصادية النيوليبيرالية عن الدستور والحسم في ملف الخيارات الاقتصادية الكبرى من خلال حوار وطني يسبق الانتخابات التشريعية المقبلة. هذا الى جانب حصر إمكانية الترشح للمناصب السيادية والاقتصادية العليا على التونسيين غير الحاملين للجنسيات المزدوجة.