“في الفم شفق”.. حينما يغيب الشغف يصطبغ الكلام بالدم

يسرى الشيخاوي-
 
هل وقفت يوما حافيا عاريا في وجه القدر؟ هل نظرت إليك عبر عينيك المرتسمتين على مرآة صدئة؟ هل واجهت ذلك السواد الذي يسكن تفاصيلك؟ هل مررت أناملك على الندوب التي تزيّن روحك؟ هل لمست الجراح التي نخرت ذاكرتك؟  هل حرّرت أسرارك ورغباتك وساءلتها؟ هل تقيّأت بقايا الخضوع فيك؟ 
 
هل أفلتت ذلك الخيط الهلامي الذي يشدّك إلى الواقع؟ هل لاحقت طيف الشغف حينما ذوت حمرة الشفق؟ هل تأملت سيلا من الكلمات مصطبغا بالدم؟ أسئلة قد تبدو لك سريالية لكن مسرحية "في الفم شفق" للمخرج ريمي سرميني  تقيض ظنّك وتجيب عن الأسئلة بـ"نعم".
 
فالمسرحية تأسرك منذ البداية في حالة ذهنية ونفسية تقحمك في حيرة وجودية لا قرار لها ولا جواب ولكنّك تحياها بكل تفاصيلها بل وتنتشي بها، وعلى ايقاع الأنفاس المتقطعة والخطوات المرتبكة والآهات المكتومة تتوغل داخلك وتتحسس الزوايا المظلمة فيك وتصرخ دون أن يجد صوتك صدى.
 
حكايا مشتتة عن الروح والجسد والأنا والآخر والوجود والعدم والحب والكره والبياض والسواد والفرح والترح والذاكرة والنسيان والحياة والموت والواقع والخيال والرقص والجمود، حكايا نسج الممثلون من خيوطها تفاصيل مبهجة أحيانا وموجعة كل حين.
 
"في الفم شفق"  سفر إليك، إلى الإنسان داخلك بعيدا عن كل تلك الأقنعة التي تلبسك إيّاها الحياة تباعا حتّى تكاد تنسى وجهك الحقيق ولا تعانق ذاتك الأصلية إلا إذا ما أمعنت النظر في مرآتك باتجاه عينيك وأنت لن تعرف الطريق الصحيح إذا خبا البريق فيهما.
 
والمسرحية لا تخلو من رمزية انطلاقا من عنوانها الذي يجمع بين الفم جزء من جسد الانسان وحاضنا للآهات والقبلات والكلمات وبين الشفق خلاق الحمرة والمنذر بحلول الليل والسكون، فهل لك أن تتخيّل شفتين تحملان أفقا يميل إلى الحمرة  وربّما تلك الحمرة إحالة إلى الدم.
 
وإن كان الشفق مرتبطا بغروب الشمس والفم مرتبطا بالكلام، والمفردتان تمدّان جذورهما في مواجهة الإنسان لنفسه وفي وقوفه عاريا إلا مما أتى قلبه وعقله ذات انهيار على حافة العدم، هناك حيث تلاشى طيف الشغف وغربت شمس الروح فاصطبغت الكلمات بالدم.
 
في البدء قد يبدو لك العنوان غريبا ويثير فيك الكثير من الأسئلة لكن الأجوبة تأتي تباعا طيلة المسرحية التي تنزف فيها الأصوات كلمات بلون الشفق، كلمات قد تبدو في هيئة خناجر تشرّح جسدك لتوجد لك منافذ إلى دواخلك التي تغمض عنها عينيك حتّى تراكم بها الوجع وصار شبيها بخيوط العنكبوت.
 
خيوط العنكبوت والغبار والمرحاض والمرآة التي أكل الزمن جوانبها وملاءات بيضاء وخيوط وإبرة بعض من السينوغرافيا التي أوجدتها نسرين الدوزي، سينوغرافيا ترمي بك في عالم داكن ذهب بريق ضوءه حتى بدت الظلمة أقرب إليه، هو قاع الإنسان الذي يراكم فيه كل الحقائق التي لا يريد ان يراها.
 
وفي المسرحية حضور صارخ للونين الأبيض والأسود وكأن فيهما إحالة إلى الخيط الأبيض والأسود وما بينهما من شفق  حيث تتجلّى حمرته في الوشاج الذي كان يزين رقبة الممثلة نجمة الزغيدي ثم حجب النور الخافت عن عيني الممثل أحمد مراد خنفير، وكأن صراع الإنسان مع نفسه يتأجج ساعة الشفق فإما هو يخننقه ويكتم أنفاسه أو يغطي عينيه فيعمى.
 
وعلى ركح فضاء التياترو الذي أنتج المسرحية، يصارع ممثلان لا يجمل أيا منهما اسما نفسيهما، والأسماء في بعض المقامات تصبح بلا معنى وكل فرد تحدّث إلى نفسه ساعة خلوة هو امتداد لهذين الممثلين وربّما هما امتداد له وربما الكل امتداد لحياة كانت تشبههم وماعادت.
 
في كل رجل إمرأة وفي كل إمرأة رجل، من هنا تستمد الشخصيتان المتصارعتان على الركح معنى صراعهما الذي يبدو ثنائيا لكنه في الواقع صراع داخلي بصوت مسموع، صراع تتلبّس فيه الحقيقة بالوهم والوجع بالنشوة والدمع بالابتسامة والأمل باليأس والصراخ بالسكون ولكنّه لا ينتهي.
 
لملامسة قاع الإنسان، انطلق المخرج ريمي سرميني، وفق حديثه، من حكاياه مع نفسه، من تلك اللحظات التي يختلي به فيها، من تلك الأسئلة التي يطرحها عليه ولا يعود من داخله إلا بأجوبة شافية، من حالة الفصام "العادية" التي يعيشها ونعيشها في ذروة الانفعالات أو الانشغالات.
 
لحظات الصراحة على قسوتها ووقعها الشبيه بذر الملح على جراح مفتوحة، صوّرها ريمي سرميني على الركح مرّة عنيفة هوجاء ومرة باردة حدّ الجمود، من خلال أداء الممثلين والتلوينات الموسيقية والإضاءة والسينوغرافيا وهي توليفة تشدّك إلى العرض في كل تفاصيله.
 
على الخشبة كان أداء الممثلين متناقضا في بدايته فأداء نجمة الزغيدية يتسم بمبالغة موظّفة في محلّها وبانفعالات مكثّفة تدفعك احيانا إلى الرغبة في تقليد حركات سيقانها إذ هي تفصح عن توترها ورجفة يديها إذ أشعلت السيجارة وارتعاشة جسدها إذ هي تقيأت.
 
وأما أداء أحمد مراد خنفير كان موشّحا بالرصانة والبرود احيانا وبغياب الفعل اللفظي في أغلب المشاهد فنظرة أو صمت مطوّل أوبعض خطوات تكون كفيلة بأخذ الصراع إلى محطّة اخرى، ولكن في نهاية العرض يلتقي الصراع عند نقطة الانفجار ويعلن الممثلان عن موت الشغف فيهما.
 
 على إيقاع الشغف الضائع تتوحد سكنات الممثلين وحركاتهما عند نقطة التصالح مع الذات فأن يكون الممثل موهوبا لا يعني بالضرورة ان يكون ناجحا وأن يحظى بأدوار، هي عينة لصراع داخلي لممثلين عبس الحظ في وجهيهما مهنيا وعاطفيا، ربّما هي هواجس المخرج بثّها في العرض المسرحي. 
 
وفي العرض تقحمك الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي أوجدها ابراهيم خلف والإضاءة التي راقصها محمد محرز زيدان في أعماق الشخصتين اللتين يبدو عليهما الاضطراب النفسي، فتعلو الايقاعات وتخفت وفق نبرو صوتيهما وتشتد الإضاؤة وتخفت على وقع حركاتهما.
 
بعض التفاصيل قد تبدو مباشرة جدّا إلى حد الإرباك، تشعرك بالغثيان حينا والشعور بالأسى أحيانا لتجليات العنف والتيه والضبابية التي قد توشّح دواخلنا ونحن ننشرّح أجسادنا لنحرر أرواحنا من سطوة الواقع، هي حقيقتنا حينما تتجلّى امامنا عارية تربكنا وتدمينا فنتجمل بلون الشفق ونمضي الى الأمام إذا ما تصالحنا مع ذواتنا. 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.