بقلم: طاهر بشير
يوم 28 اكتوبر 2016، غيب الموت الاستاذ الجامعي والعازف المبهر الشاب خلدون بن صالح عن عمر لم يزد عن 37 سنة. وقد كان موته المفاجئ وفي ذلك السن صدمة لوالديه وأشقائه وبقية العائلة وكذلك ايضا لأصدقائه وزملائه وطلبته وكل الذين عرفوه وعاشروه.
نجح الراحل العزيز في ان يصنع لنفسه موقعا مهما على لائحة العازفين المتميزين سواء على آلة العود أو على آلة القيتار وقبلهما أو معهما آلة " الصاز" شائعة الاستعمال في تركيا وسوريا وايران وبلدان البلقان بالنظر الى حرصه الشديد على اتقان عزفه وإخراج المقطوعات التي يؤديها في ابهى حلة.
والده زميلنا محمد العروسي بن صالح الذي مازال يبكيه في صمت قال لنا وهو يسترجع بعضا من الذكريات أنه لما سافر الى العراق بداية تسعينات القرن الماضي عاد منه بعود عراقي عتيق ساعده على اقتنائه احد العراقيين المقيمين في تونس. وروى الزميل بن صالح المشاق التي تكبدها والصعوبات التي لقيها وهو عائد بذلك العود الى تونس. فمن قواعد نقل العود ضرورة حفظه في وعاء مهيئ للغرض صلب من الخارج وناعم من الداخل حتى لا يتعرض العود نفسه الى الخدش او الكسر أو ما شابه. ومن الافضل بل من المطلوب أن يوضع ذلك الوعاء في صندوق السيارات الخاصة أو صندوق نقل الامتعة في الحافلات السياحية او في الطائرات.
ولان العراق كان آنذاك تحت الحصار، فان أي بضاعة خارجة منه أو داخلة اليه تتعرض الى التفتيش الدقيق. زد على ذلك حجم الوعاء الحامل للعود. وبصعوبة كبيرة، لكن باصرار أكبر تمكن الزميل من العودة بالعود وهو متأبط له رغم استعماله الحافلة من بغداد الى عمان والطائرة من عمان الى القاهرة ومن القاهرة الى روما ومن روما الى تونس.
كذلك الشان بالنسبة لنسختين من آلة " الصاز " حيث تكفلت والدته بجلب الاولى من تركيا وتكفل صديق العائلة الفلسطيني السوري ماجد كيالي بجلب الثانية من حلب أو آلتي القيتار اللتين جاءت أولاها من فرنسا فيما تكفل أحد الموردين بجلب الثانية من هونغ كونغ. وبذلك صح القول في حق الراحل خلدون أنه عازف موسيقى عابرة لآلات العود والصاز والقيتاروآتية من مختلف القارات.
ونقل لنا بعض ممن عملوا مع الراحل خلدون أنه مدرس جيد لا يدخر جهدا في تعليم طلبته وإفادتهم بما اكتسب من علم ومن تقنيات خاصة في العزف على العود. وأنه باحث جيد.فقد انجز ثلاثة بحوث جامعية مهمة تعلق الاول منها بسيرة وموسيقى التركي جميل بك الطنبوري صاحب عديد المقطوعات الموسيقية الراقية ومنها على سبيل الذكر(سماعي محير ) وتعلق الثاني بعازف القيتار الامريكي "جاكو باستوريوس" فيما تعلق الثالث بموسيقى الزنوج في تونس والمغرب العربي مع ما يصاحب ذلك من مقارنات مع موسيقى الجاز والبلوز والسول الامريكية وبحث وعمل على صهرها فيما اصطلح على تسميته بموسيقى العالم.
يقول الاب الملتاع انني بقدر اعجابي بالأعمال البحثية التي انجزها الراحل العزيز وكنت اطلع عليها من البداية الى النهاية واكتشفت من خلالها عوالم مبدعة، الا أنني تطيرت منها جميعا. فهي أولا لموسيقيين أبدعوا لا محالة وغنوا للحياة والبهجة ولكنهم ماتوا في سن مبكرة، في سن خلدون، ثانيا لان موسيقاهم تروي قصص عذاب وآلام ومعاناة.
يموت المرء نهائيا عندما ينساه الناس. أما وهم يذكرونه فإنه حديث من بعده.
رحم الله الراحل العزيز ورزق والده محمد العروسي وبقية أفراد العائلة جميل الصبر والسلوان.