فيلم “يوم الدين”: المنبوذون في الارض يبتسمون في وجه الوجع حتى يوم الفصل

يسرى الشيخاوي-

 

" هو أنا مش بني آدم ولا إيه" جملة تقطر ألما ووجعا نطق بها " بشاي" والمسافرون يطردونه من عربة القطار فقط لأنه مختلف عنهم، الجملة أعادها "بشاي" أكثر من مر بكثير من السخط والقهر أسقطت ورقة التوت عن الجانب الأناني البشع عند الأفراد، أفراد لا يحترمون اختلافك عنهم، ينبذونك ويصمونك بنعوت غير إنسانية، قسوة في معاملة إنسان عانى الجذام لن تمّحي آثارها في نفسه إلى "يوم الدين".

"يوم الدين" هو اليوم الذي ينشده "بيشاي" وكل المنبوذين في الأرض لاختلافهم، يوم يقف فيه الكل سواسية أمام مالكه، "يوم الدين" فيلم روائي طويل للمخرج المصري أبو بكر شوقي من بطولة راضي جمال وأحمد عبد الحفيظ.

سينما الطريق ورحلة البحث عن الإنسانية

المخرج ابو بكر شوقي اختار أن يكون "يوم الدين" من أفلام الطريق، وصوّر لنا رحلة البطل من مستعمرة الجذام إلى "قنا" حيث يسكن أهله، والطريق او المسار في الفيلم يتخذ عدّة أبعاد نفسية واجتماعية ووجدانية، ففي رحلة بحثه عن عائلته إنما كان "بشاي" يبحث عن بصيص من الإنسانية، عن نظرة رؤوم في عيني الآخر.

لم يرزق بأطفال، وافت المنية زوجته، هو وحيد شريد في مستعمرة تقع في نقطة نائية من القاهرة، لا شيء سيكسر الرتابة التي خلفها رحيل رفيقته سوى تلك سوى الانصياع لتلك الرغبة الملحة في البحث عن أهله.

هو لا يتذكر شيئا عن طفولة سوى صورة والده الذي رماه عند باب المستعمرة وكأنه يتخلص من خطر ما، ومنذ تلك اللحظة واجه "بشاي" مصيره لوحده، في رحلة البحث عن أهله، كان عرضة لسخرية وتهكم قابلهما بابتسامة تكتم وجعا ازليا، "بشاي" الذي يؤدي دوره راضي جمال المتعلقة من مرض الجذام وحده يعلم وجع أن يرفض أحدهم أن يجيبك عن سؤالك ويكتفي بضحكات سخرية.

وليس أشد قسوة من أن ينظر الناس إلى وجهك وشكلك فينهرونك لأنك مختلف عنهم وبتجنبونك مخافة العدوى، ليس أشد ألما من أن يرضى ان تنزل " الجاموسة" إلى مياه النيل في حرية مطلقة وحينما ينزل "بشاي" تأخذ إمرأة أطفالها بعد أن غرزت كلماتها في روحه " انت عايز تعدي ولادنا".

مشاهد أخرى كثيرة عرى فيها الفيلم قساوة معاملة المختلف عنا، ووجع المنبوذين الذين تسلحوا بابتسامات خذلها واقع الإنسانية. ممرضة من المفروض انها تمارس مهنة نبيلة والشيخ الذي يمسك قرآنا بيده، الشرطي في الحجز، والمسافرون في القطار كلهم تعاملوا بلا إنسانية مع "بشاي"، حتى أنه اضطر للركوب في عربة " البهائم"، ايوجد موقف أشد بذاءة من هذا؟

للمعاناة وجه مشرق

"بشاي" الذي قضى حياته في مستعمرة التحية فيها " مساء الخير يا عيانين، ومع السلامة يا عيانين"، شفي من الجذام لكن جراح روحه لا تندمل في مجتمع تتلون فيه تعبيرات الرفض والإقصاء والتمييز على أساس الشكل.

وإن انطلق الفيلم بمشهد لأكوام زبالة ينبش فيها شخص بأنامل غابت ملامحها وعيناه تتفحصان تفاصيلها وهما تتحركان في وجه كسته زينة الزمن، وجه عليه آثار جروح يبدو أنها كانت غائرة لكنها حمالة لأمائر المقاومة، ومن وسط القمامة تنبعث أغنية من جهاز تسجيل، العالم أكوام زبالة، والحياة معاناة متواصلة المنبوذين في الأرض ولكن هناك دائما جانب مشرق.

القدر وضع في طريق " بشاي" الذي لم يرزق ولدا، الطفل " اوباما"، يتيم تؤنسه رفقة "بشاي" ويطارده حيث مصب الزبالة ويرى في صحبته بديلا عن ساعات الدرس التي لا يحضرها، غمره حبا وحنانا ورافقه في رحلة بحثه عن عائلته غصبا عنه.

ولما فقد "بشاي" حماره حربي الذي كان هو الآخر رفيقه في مستعمرة المجذومين، يجر عليه عربية " كارو" تحمل ما تيسر من الأشياء الصالحة للرسكلة، وضع القدر في طريقه متسولون لفظتهم الحياة على قارعة العدم بسبب اختلاف أشكالهم، قاسموه المسكن والمأكل وكانوا عونا له في الوصول إلى " قنا" حيث أهله.

اخفي وجهك حتى أراك

أن يترك المرض او حوادث الحياة آثارا على جسدك ليس بالأمر الهين الذي يمكن أن تجاريه في مجتمع ينتشر فيه التمييز والإقصاء بفعل العدوى، نظرة سطحية منمطة خاصة لاولائك الذين يحملون آثار مرض الجذام على وجوههم.

" نحنا ضحايا أشكالنا منبوذبن وعمرنا ما نبقى زي الناس.. نحنا عايشين على امل انه يوم الدين كلنا سوايسة" مفردات قالها أحد المتسولين في مسامرة ليلية مع "بشاي" قد تلخص معاناة المنبوذين في الأرض، معاناة رسمها أخوهم الإنسان بعنجهيته وانانيته وسطحية نظرته الأمور.

نظرة الآخر القاتلة، جعلت "بشاي" يخفي وجهه في مشهد سريالي جعل منه" اوباما" مشهدا كوميديا بعبارة "شيك اوي"، مشهد مؤلم بلا حدّ، وطالما وجهه مخفيا لن يصافح نظرات توغل في تقاسيم وجهه وتترك فيها علامات إقصاء واشمئزاز، وحدهم سكان المستعمرة وأصدقاؤه المتسولين قبلوه بجروحه.

لا إكراه في الدين، ولكن "بشاي" وجد نفسه مكرها على الصلاة وراء المسلمين في أحد المساجد، خوفا من نبذه، المسيحي اكرهه تعب الطريق ووجعه على أن يتظاهر بالصلاة وان يكتم دينه الحقيقي.

المستعمرة موطن إلى يوم الدين

رحلة "بشاي" خارج المستعمرة خلفت له صدمات ربما تكون أعمق من أثار تلك الجروح التي خلفها الجذام في وجهه، لكن رغم كل القسوة والتمييز لم يزدر ذاته ولم يقتل البسمة على شفتيه.

في بحثه عن عائلته وعما تبقى من رذاذ الإنسانية على هذه الأرض، تعمق يقين "بشاي" بأن المستعمرة هي الأصل والموطن، وجد عائلته ولكنه لم يجد لنفسه مكانة معنوية في محيطها فشدّ الرحال إلى موطنه مع رفيقه الصغير " اوباما".

وفيلم " يوم الدين" فيلم انساني ونوعي بامتياز عرت فيه كاميرا ابو بكر شوقي إنسانية زائفة من خلال رحلة "بشاي" و"اوباما" من القاهرة إلى قنا، دراما واقعية نجح ممثلان غير محترفين وهما راضي جمال المتعافى من الجذام والطفل أحمد عبد الحفيظ في تجسيدها بشكل يجعلك تشتهي أن ينتهي العالم لحظة انتهاء عرض الفيلم ليحس "بشاي" أنه مثلنا ويبتسم ابتسامة فرح لا وجع.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.