فطومة النملة: مسيرة مناضلة تونسية منسية.. ولكن التاريخ لا ينسى

  أمل الصامت –

يقولون إن التاريخ لا ينسى.. ولكننا ننسى أحيانا أن ندوّن على صفحاته ما يجب أن تحفظه الذاكرة ليكون خارطة الأجيال المتعاقبة، خاصة وإن تعلّق الأمر بنضال امرأة تونسية ساهمت بالكثير في بسط السجاد الأحمر أمام أسماء غنموا من التبجيل والتكريم ما يكفي ويزيد أثناء حياتهم وحتى بعد مماتهم، فشكلوا هم التاريخ وقبعت ذكراها هي في قوقعة النسيان.

الاسم فطومة النملة.. تاريخ الولادة 3 أوت 1935.. مكان الولادة جزيرة قرقنة.. الجنسية تونسية… معلومات قد تبدو مجرّد بيانات من سجل حالة مدنية لامراة مثلها مثل أي مواطن تونسي عادي، إلا أن الحكم قد يختلف إذا عرفت المسيرة النضالية لهذه الشخصية التي لم يجد اسمها مكانا في كتب التاريخ التي توثق الحركة الوطنية والنسائية والنضالية عموما في تونس.

هذه المتاضلة الفذّة، لم تعرف نضالاتها طريقا نحو العرفان بالجميل من قبل الجهات الرسمية ما عدا مجرّد مبادرات فردية "سياسوية" ووعود بردّ الاعتبار ضلت كلها "ضربان حنك"، حسب تعبير ابنتها صحبية الدامي، التي تأمل في أن يصل صوتها إلى المسؤولين بضرورة ردّ الاعتبار لمكانة والدتها في الحركة الوطنية والنسائية زمن الاستعمار وبعد الاستقلال.

مسيرة انطلقت عندما كانت فطومة النملة في سن الخامسة عشرة، وهي خريجة مدرسة الربط بصفاقس ثم الفرع الجامعي الزيتوني بالجهة، وترعرعت في عائلة نقابية وطنية بامتياز قبل أن تتزوج النقابي الراحل المعروف بـ"الحاج محمد الدامي"، وتتقاسم معه كل خطوة نضالية كان يتبعها سواء بالمشورة أو بالفعل.

ولعل ما قامت به فطومة النملة في أحداث 26 جانفي 1978، أو "الخميس الأسود" كما يحلو للنقابيين تسميته، والذي تصادف يوم غد السبت 26 جانفي 2019، الذكرى الواحدة والأربعين له، يستطيع أن يخط صفحات جديدة في تاريخ الحركة النقابية في تونس، حيث قامت بعد الزج بالزعيم الحبيب عاشور وزوجها الحاج محمد الدامي وعديد المناضلين النقابيين في السجن -على خلفية التحركات الاحتجاجية التي بدأت يومها سلمية وانتهت دموية بعد المواجهات بين الأمن والمحتجين- بقيادة حركات احتجاجية مع عائلات السجناء النقابيين داخل قصر العدالة، وكانت تتكبد مشقة الطريق بين صفاقس وتونس العاصمة لإيصال "القفة" لزوجها ومجموعة من رفاقه في السجن.

و"قفة" الحاج محمد الدامي التي تحضرها فطومة النملة كانت استثنائية، حسب وصف محدثتنا صحبية، إذ كانت "ملغومة" بالمعلومات التي كان لها الفضل في عدم خضوع السجناء النقابيين إلى "محاكمة ضالمة" حينها عندما عمد النظام إلى تغيير المحامين وقامت هي بإصال المعلومة لزوجها ورفاقه في "القفة" داخل الطعام.

ولم تقتصر معاناتها على هذه التفاصيل المرهقة، بل وصل بنظام بورقيبة الحد إلى محاصرتها في بيتها طيلة 15 يوما من خلال رجال الشرطة، وإيقاف ابنها الأكبر وتعريضيه للتعذيب، وهو ما نتج عنه تصريحها الشهير لصحيفة "الرأي" والذي قالت فيه لرئيس الدولة الحبيب بورقيبة: "ذوّقناك العسل قبل الاستقلال.. ذوّقتنا البصل وقت شديت الحكم"، ليبعث لها برسالة مع الوزير المعتمد لدى الوزير الأول محمد الصياح للقائه ولكنها رفضت الدعوة.

هذه المرأة التي صمدت في وجه النظام والسياسات الخاطئة التي اعتمدها في تلك الفترة تجاه قيادات المنظمة الشغيلة والمعارضة، هي نفسها التي أرهبت المستعمر وسجنت وتعرضت لشتى أنواع التعذيب سنة 1952 بعدما قادت مظاهرة بمناسبة اليوم العالمي للمراة بتاريخ 8 مارس، وهي حامل في شهرها الاخير بابنتها البكر التي سمتها "آمال" نزولا عند رغبة الزعيم الحبيب بورقيبة.

هي التي صرخت "الله أكبر" من على ظهر زوجها الحاج محمد الدامي يوم جنازة الزعيم الراحل الهادي شاكر الذي كان دائم التشجيع لها، فجعلت عسكر المستعمر ينسحب في صمت وتلت هي تأبينا أبكى الحاضرين، وهي التي ساهمت إلى جانب المناضلة السيدة الدو في تاسيس مدرسة للفتيات وانخرطت في أواخر الأربعينات في الاتحاد النسائي الاسلامي وشغلت منصب الكاتبة العامة للشعبة النسائية بمنطقة الربط بصفاقس والتي قادتها حينها مجيدة بوليلة.

مسيرة لا تستطيع هذه الأسطر أن توفي فطومة النملة حقها، وهي التي فارقت الحياة بتاريخ 7 ماي 1994، عن سن لا يتجاوز 59 سنة لتترك وراءها لوعة في قلوب ابنائها وبناتها الذين حرموا منها عندما كرّست أغلب وقتها وجهدها لخدمة بلادها، وهم اليوم لا يطلبون مالا ولا إحسانا ولكنهم يتمنون أن تحظى والدتهم بما حضيت به رفيقاتها وسابقاتها ولاحقاتها في النضال.. لا يطلبون سوى عرفانا رسميا بالجميل.. فهل من مستجيب؟

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.