يسرى الشيخاوي-
العباد في تركينة لحمها مقطع بالسكينة.. يزيد لحاكم اجينا ادز اهين اذل فينا.. الفقر و الهم و المشاكل حوت في حوت ديما ياكل" كلمات أغنية "عباد في تركينة" لمغني الراب فريد المازني المعروف بفريد الـextranjero، كلمات ركن إليها ليفضح انتهاكات البوليس في عهد بن علي.
"عباد في تركينة"، نص تماهت فيه القسوة والعنف وكان ترجمة لواقع تونس تحت وطأة النظام النوفمبري، نقد صريح للنظام، كلمات بذيئة لنقد وضع أشدّ بذاءة، وصوت كل الأفراد الذي لزموا "التركينة" حتّى لا تطالهم يد النظام.
"عباد في تركينة"..
تضييق على الحريات، قمع واتهمات جاهزة لكل من يصدح بالحق أو يتجرأ على الرفض، معاناة تتخذ تجليات عدّة والنظام لا ينفكّ يزيّن صورته بنزف شعبه، هذه المعاناة ذاقها فريد المازني، رابور من الرعيل الأوّل.
هو أصيل منطقة الجبل الاحمر وفيها طالعته أولى بوادر الظلم في منظومة ينخرها العنف، كان يدرس في الصف الخامس ولم يكن يعتقد ان استعارة " كوس" من زميلته سيكون سببا في لكمة من المعلم تركت أثرها على وجهه.
حينما حاول إرجاع "الكوس" إلى زميلته ارتطم بالأرض لما قذفه وتفطن المعلّم للأمر وجازاه بلكمة كانت سببا في أن ينقطع على الدراسة ويخزّن داخله معنى أن ينتهك أحدهم حرمة جسدك.
وحينما خاض معركة مع "بوليس" ذاق طعم الظلم مرة أخرى، لتسكن كلمات "عباد في تركينة" ذهنه داخل الزنزانة، وسنة خمسة وألفين كانت صرخته ضدّ الظلم والقهر أطلقها وهو يعي جيّدا أنها قد تعود عليه وعلى المقربين منه بالوبال.
"الظلم و الإهانة لبلاد ولات زنزانة.. الأكتاف وما عنديش كالميت فالجبانة"، "معادش خارج ملحومة منين ندور نلقاها حكومة.. ناس في الاحباس و المفتاح في يديهم هوما.. تلقاه في كل ثنية قلي يسمع الهوية.. لغة باندية فصايل موشي بوليسية ويني هل حرية ويني هالديمقراطية"، يشرح فريد الواقع التونسي ويعرّي كذبة الحرية والديمقراطية ويسقط ورقة التوت عن نظام ظالم ويترجم همومه وهموم الآخرين.
"مهموم"..
إلى الراب لجأ لينفّس عن بعض من غضب جيل كامل عاش القهر بتلوينات كثيرة، الراب الذي اكتشف معناه في منطقة الجبل الأحمر حينما كان يتبارز وأحد أترابه بالكلمات وكان يتفنن في نسج الحروف ويلقي كلماته بسرعة.
وبعد بحث أيقن أنه ارتمى في حضن الراب الذي كان وسيلته للتعبير عن الرفض والمناداة بالحرية والتحرر من كل قيد، والراب في عقيدته أسلوب حياة وصوت لكل "العباد في تركينة" و"لاءات" في وجه من قالوا "نعم".
مسيرته في الراب انطلقت في بداية التسعينات من خلال مجموعة "فيلوزوف"، ومعها انطلقت معركته ضد "السيستام" وفي أغانيه بث كل همومه التي ليست إلا انعكاسا لأبناء جيله وأبناء وطنه.
هموم السجناء، وهموم المهمشين وهموم "الحراقة" وهموم الثائرين والصامدين يعرفها جميعها، وهو الذي خبر تفاصيل السجن وهاجر هجرة غير نظامية وثار على واقعه بطريقته، وهو الذي صمد في وجه الفشل وواصل دراسته وطوّر من نفسه.
"مهموم" هو بمعاناة الآخرين يمتصها ويحوّلها إلى كلمات أشبه بالرصاص، كلمات قاسية وعنيفة وموجعة والمفارقة أنها لا تخلو من أمل في شعب قادر على التغيير إن عزم على الأمر.
"تبعني دبة دبة توة تفهم اللي نحكيه ياما عديت ليالي ساهر حتى النوم وليت ناسيه شاحت من عيني الدمعة حتى قلبي فات الشمعة قاعد نحسب في ايامتي"، كلمات من أغنية " مهموم" التي تعكس بعضا من هواجس إنسان يلامس وجع الآخر لأنه عايشه وخبر وجعه.
"نهز عيني لربي ديما نخزر للسماء.. همي ديما في قلبي نفركس ما لقيتش دواء.. عيني تعبت فشلت زادت شاحت من البكاء.. صدري تعبى بالمشاكل ماعادش نقبل الهواء"، يروي مسيرته مع المعاناة ويتنفس عبر كلمات أغنيته التي تحكي قصص الكثيرين في بلد لا يتغير فيه إلا الظاهر وفيها رسالة أنّك لست وحيدا مهما تعاظمت همومك.
"رسالة"..
الراب في نظره فن الموقف ومن خلاله يبث عديد الرسائل ويعبر عن آرائه وتمثلاته للواقع سواء قبل الثورة أو بعدها، ولم ينفك إلى اليوم ينقد الواقع ولم يخلط بين التجاري والفني، ربّما هو الأمر الذي جعله "رابور" استثنائيا.
في كلماته صدق يقحمك في تفاصيل حكاياته ويجعلك تعيش وجعه بكل تفاصيله، عن الظلم والقهر والتهميش والزيف يواصل الغناء بعد الثورة وينتقد الواقع ويضع اصبعه على أمراض المجتمع والسياسة.
"هاتو حلول وجعتولي راسي.. فقر وميزيريا وهم و ظلم وناس تقاسي.. ولمعندوش يموت يباصي.. راو غرقتونا فالوحل..هاو ظلم كبير مدخلي راسي.."، كلمات من أغنية "رسالة" تختزل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في تونس، تشرّح الواقع وحضر السياسيين في "تركينة".
"ضرب و شتيمة و مشطة وحبس حاكم عاصي..حتي الحجر مش كيفكم قاسي.. ما تبلع قدمة ما تتذل.. ما يجينا كان الي يسلبونا.. يشدو المناصب بها يذلونا.. يسكرو الابواب و يستعبدونا..ولا ارمي روحك في البحر"، يصف قسوة الوضع في تونس، وضع يدفع بالبعض إلى امتطاء قوارب الموت هربا من جحيم محتوم.
حرّ هو يعبّر بطلاقة عما يعتمر داخله، مهووس بحرّية التعبير التي كلّفته الكثير، سنينا من الغربة والوجع والفراق والمعاناة ولكنها أيضا علّمته معنى المقاومة من اجل فكرة ومن أجل حلم وكان القلم رفيقه يزيّن به تفاصيل الأوراق لتولد أغان موشّحة بالثورة والتمرّد.
"ورقة ستيلو"..
ورقة ستيلو ضد الريح، ما تخبيش الي تشوفو صحيح.. برشا حفر، عينيك لا تطيح في اللوطا.. عيش راجل، قلبك صحيح، ما تخلي الكرامة تطيح.. ! liberta أحكي, تكلم, ناقش قول"، هذه الكلمات تلخّص معركة الحريّة التي خاضها فريد المازني.
حرب على النظام وأذرعته، دخلها عاريا إلا من "ورقة" و"ستيلو" كانا سلاحه الوحيد لكي يتجاوز صوته مدى السجن المفتوح الذي أسرت فيه المنظومة الشعب كله وقطعت عليه سبل الخلاص بلا أضرار.
"اكتب عبّر مش في الكورة.. احكي عالذّيوبة و النسورة.. شوف العيشة ولات غورة.. احكي الواقع صفّي الصورة.. شوف في الشارع اعمل دورة.. إسهل اناثي و ذكورة
ضحايا في افام نمورة.. في المنداف.. صحافة لسان الحرية.. هي الضوء في ظلم الثنية.. كلام الحق ديمقراطية.. في يديك خيوط القضية"، يحث على التعبير وعلى التمرّد على الواقع وتجاوزه لبلوغ الديمقراطية الحقة.
"اكتب صور احكي الواقع.. ع النّاس إلّي عايشة في خرب.. ع المربوط أمّو تندب.. ع إلّي يدز فينا و يسب.. ع إلّي يبكي خاطر تغلب.. ع إلّي ملك منين كسب.. ع المتغرّب وين يشب"، يواصل التحريض على الثورة ويلامس أوجاع التونسيين في الداخل والخارج.
"ديما نضحكو "..
بعد سنين من القمع والانتهاكات، تحررت الكلمة ولكن لم يتغير الوضع كثيرا وبقي صوت فردي المازني امتدادا لتونس العميقة التي مازالت تقاوم، ينقد ويعرّي الكذب والزيف ويحثّ على التغيير.
وفي أغنية "ديما نضحكو" يتجلّى امله في هذا التغيير، يضع أصابعه على كل الصعوبات التي تعترض التونسي ويربّت على معاناته ولكنه يخبره أنه " لابد لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر".
فيديو كليب الأغنية يوثّق ابتسامات تونسيين زمن الكورونا،تختلف معانتهم وهواجسهم ولكنهم يلتقون عند الامل، الأمل في غد أفضل وفي تونس تجمع الكل وتؤويهم دون استثناء.
"ربي يعلم الحياة مش هينة.. القلوب تعبانة ومش مبيّنة.. التبسيمة في الوجوه مزيّنة.. ضحكنا وحتى كتبدى مقينة"، يروي واقع الكثير من التونسيين الذين يقطعون الطريق على دموعهم ويزينونها بنظرات الأمل.