“فرططّو الذهب” في سجن الكاف.. لا تسكتوا صوت الطفل داخلكم

 يسرى الشيخاوي- 

"لا تهملوا الطفل داخلكم.. أنصتوا إلى صوته.. الأطفال لا يخطئون" صدحت كلمات المخرج عبد الحميد بوشناق في أرجاء السجن المدني بالكاف وبدّدت القضبان المتناثرة في كل صوب.

بهذه الكلمات خاطب بوشناق الطفل داخل المودعين لعلهم يقتفون أثر ابتساماته ومدى نظراته ويتحررون من سطوة الزنزانات، في نقاش عقب عرض فيلمه الروائي الطويل الثاني "فرططو الذهب"، نقاش لامس فيه المودعون تفاصيل كثيرا وأبدوا إلماما ودراية بعالم الصوت والصورة. 

إلى جانب الحيز الزمني الذي تتيحه أيام قرطاج السينمائية في السجون للمودعين ليتناسوا فيه أنهم مسلوبوا الحرية ويتنفسوا الحرية عبر شاشة السينما، فإن الأفلام التي تُصافحها أعينهم تجعلهم ينظرون إلى وضعياتهم من زاوية أخرى. 

ومنذ فاتحته إلى خاتمته، يحمل "فرططّو الذهب" في تفاصيله معاني أخرى للحياة وللموت، للوجود وللعدم، للبنوة والأبوة، للحب والكره، للصفح والقصاص، للتأثر والتأثير، للحب والكره، للحقيقة والخيال، للحرية والسجن.

وسط هذه المعاني، يقف المخرج عبد الحميد بوشناق كعادته على سبيل ثالثة لا مكان فيها لثنائية الخير والشر يؤمن بألا أحد منا ولد شريرا يسائل كل شيء من حوله ليرسم ملامح العبور من الخير إلى الشر. 

وفي فيلمه، يعزف على أوتار الواقع والخيال والظاهر والباطن ويراوح بين نقاء الطفولة ودنس ما يليها من مراحل يتآكل فيها الطفل حتى يخفت صوته ولا ينجو من المحرقة إلا من ربّت على قلبه وضمّد جراحه.

تعبيرات سينمائية مارقة عن السائد والمألوف تتهادى على إيقاع قصّة تزخر بجمالية ساحرة تمتد إلى القبيح فيشرق بتفاصيله ويشدّك إليه شدّا، قصّة يتجلى فيها ولع بوشناق بمخرجين عالميين على غرار ستيفن سبيلبرغ وجايمس كامرون وبيتر جاكسون.

أسلوب إخراجي يعانق العالمية مزاجه تونسي تماما كما كل عناصر الفيلم وصناعه، أسلوب يعرّيك من كل الزيف من حولك والأطر ويتركك وجهها لوجه مع ندوبك وجراحك.

كلما تدفق السرد في الفيلم، تتعرّى أكثر فأكثر حتى يتطاير جلدك وتتلاشى عظامك ولا يصمد داخلك إلا الطفل الذي طالما امتدت الايادي نحوه لتخنق صفاءه وعفويته وتفقأ عينيه التي تبصر ما في القلوب وتتطلع إلى العلياء.

البناء السيكودرامي للشخصيات يربكك ويقحمك في كل تفاصيلها ويجعلك جزء من القصة ربكك ويقحمك في كل تفاصيلها ويجعلك جزءا من القصة، قصّة تسير في منحى دائري تبدأ من حيث النهاية بداية ملؤها الدم والصراخ والنقمة وأشياء أخرى، وتنتهي بابتسامة وعناق وسرب من "الفرططو".

مع كل مشهد تمرر أناملك على تلك الندوب التي وشّمها الزمن في ثنايا روحك وتكفكف دمع الطفل داخلك وأنت تستحضر ماض موجعا وحاضرا يراكم الأطر والقواعد ليتبدّد صوته وسط ضجيج سجن بلا سقف.

من حكاية معز، شرطي ثلاثيني ( محمد السويسي) يتنازعه جانبان أحدهما فض والآخر رؤوف، وروابطه مع والده عبد الوهاب (فتحي الهداوي) تتبدّى ملامح علاقة معقّدة ومتشابكة تختزل سيرورة طمس الجانب الإنساني داخل فرد ما.

أسئلة كثيرة تواتر داخلك وانت تلاحق تفاصيل الفيلم المحمولة بأحاسيس متناقضة تجعلك عن توصيف تلقيك لها وانت تنتقل بسلاسة بين عالم واقعي أو آخر متخيل لتغرق في الغرائبية السحرية وتبحث في أثرها عن سر "فرططّو الذهب".

والفيلم وإن كان يغوص في البنوة والأبوة فإنه يعرّج على مرض مقيت يصيب العين ويغرقها في الظلمة، مرض عاين المخرج عبد الحميد بوشناق تبعاته في محيطه، ولأنه متشبث بتلك الجذور التي تشدّه إلى حكايات المحيطين به، كان هذا المرض خيطا من الخيوط التي نسج بها فيلمه.

في سباق مع هذا المرض وفي محاولة لاستثمار ما تبقى من نور في عيني طفل (ريان الداودي)يسري بك الفيلم  من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال حيث أفلح تونسيون زادهم الصدق والشغف في نحت عالم غرائبي يأسرك بتفاصيله.

عن الفن وارتدادات الماضي، ووقع النكران في القلوب وآفة النسيان، يروي الفيلم حكايات كثيرة عبر سيناريو مشحون بالحالات الذهنية والنفسية ومطرز بمشاعر لا حصر لها ولا تصنيف.

وفي كل عبور من مشهد إلى آخر ومن الحقيقي إلى المتخيل، تتهادى الموسيقى التي اوجدها الفنان حمزة بوشناق، موسيقى تداعب الذاكرة والوجدان وتراود أحاسيسك وحواسك حتى تخال نفسك شخصية من شخصيات الفيلم.

"نوريك اللي عمرك ما ريتو"، كلمة من كلمات السر في الفيلم تحيلك إلى الخيال الذي يفتح لك كل الأبواب المغلقة وإلى الحلم الذي تستجير به من سطوة الواقع إلى ان يصير بدوره واقعا لا مناص منه.

"ما تنسانيش" كلمة اخرى تحارب الذاكرة القصيرة وتختزل وجع أهل الفن وقطاعات اخرى  يبذلون فيها أرواحهم وأجسادهم ولكنها تتناساهم كأنهم لم يكونوا أو تتذكرهم لتزين بهم ندوة أو لقاء.

وبعيدا عن الجوانب التقنية التي تلفت إليها الأنظار إذ بدا انسياب الفيلم أشبه بالتطريز متماسكا متناغما ومحمّلا بالاستيتيقا، يكسب عبد الحميد بوشناق الرهان مرة أخرى حينما راهن على الممثل محمد السويسي في اول دور سينمائي له.

في دوره تماهى السويسي مع شخصية وامتص كل خلفياتها وانفعالاتها حتى تسربت إلى كل تعبيراته فكان صادقا ومقنعا دون مبالغة في الأداء، الأمر الذي جعل المودعين في السجن المدني بالكاف يسمونه باسم الشخصية.

مرونة في الانتقال بين الحالات النفسية وقدرة على تطويع تعابير الوجه والجسد وتمكن من الاداء غير اللفظي الذي تختزل فيه النظرات والحركات سيلا من الكلمات، وهو ما ينسحب على بقية الممثلين على غرار فتحي الهداوي وابراهيم زروق وهالة عياد، ورباب السرايري وآمال كراي والطفل ريان الداودي.

من خشبة المسرح إلى ركن العنف، يتقلب الممثل فتحي الهدّاوي بين رقة الفنان المسرحي وعنف السكّير العربيد موظفا كل جزء من جسده ومطوعا صوته للانتقال من وضعية إلى أخرى حتى أن أداءه يخلط كل الأوراق فيجعلك تضحك حينا وتبكي أحيانا.

أما الممثل ابراهيم زروق فقد بدا وكأنه خلق للدور الذي أدّاه (مدير معز) هادئا في صخب، وساكنا فيما تثرثر عيناه كلام كثير، وقادرا على التعبير عن انفعالاته دون الحاجة إلى الحدث، الأمر ذاته ينسحب على الممثلة رباب السرايري التي تشدّك إليها قدرة محياها على استنطاق الصمت وقدرتها على ترك بصمة وإن كان دورها خاطفا.

فيما يلفت أداء الممثلة هالة عياد الانظار لقدرتها على مجاراة الوضعيات المختلفة التي تجد نفسها فيها، فتتلون تعبيراتها في كل مرة لتدهشك وتجعلك تتساءل عن كل تلك الطاقة الكامنة داخلها، تماما كتلك الطاقة التي ينثرها الممثل ريان الداودي (الطفل) وهو ينتقل بين الواقع والخيال ويجيد التعبير عن أكثر من شعور بعمق وصدق، أما حضور آمال كراي فمبهج.

وأنت تلاحق "فرططو الذهب" على امتداد العرض في السجن المدني بالكاف لا يسعك إلا أن تعتذر من محمود درويش وتقول "أثر الفرططو يُرى".

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.