تسلّم رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد وفريقه مقاليد السلطة رسميا اليوم الاثنين بعد أن كان قد نال الثقة بتصويت قياسي ناهز 168 نائبا برلمانيا.الشاهد بوصوله إلى مكتبه في قصر الحكومة بالقصبة يكون قد شرع فعليا في مجابهة الملفات الثقيلة والملغومة التي تنتظر حلولا عاجلة وقرارات حاسمة.
وبقطع النظر عن اختلاف وجهات النظر بخصوص المواقف والتقييمات السياسية، من المهم القول بأنّ تزامن انتقال السلطة سلميا ، في مشهد حضاري واستثنائي في العالم العربي-الاسلامي بشكل يعكس طبيعة مسار التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس، مع العملية الارهابية التي جدّت في جبل السلّوم بالقصرين يؤكّد مرّة أخرى على ضرورة أن تكون مسألة كسب الحرب على الارهاب ضمن دائرة أولوية الاوليات للدولة ومؤسساتها وأجهزتها لاسيما العسكرية والامنية.
غير أنّ تفاقم الاولويات وتشعبها حينما يتداخل التحدي الامني مع الانتظارات والمطبات الاقتصادية والاجتماعية من شأنه أن يزيد في تعسير المهمّة وتعقيد الوضع راهنا ومستقبلا خاصة وأنّ البلاد تشكو من انخرام في توازناتها المالية واصطبغت بمؤشرات العجز والتعثّر.
لاشكّ في أنّ تحديات من قبيل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية تنتظر حلولا عاجلة لا آجلة بعد أن أضحت تونس على شفير السيناريو اليوناني.وفي هذا المضمار،مازال الباب مفتوحا على مصراعيه إزاء عديد التساؤلات التي تطرح على رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزرائه رغم البيان الحكومي الذي تمّ استعراض فحواه يوم الجمعة الفارط تحت قبّة مجلس نواب الشعب بباردو مقدما في متنه جملة من التوجهات العامّة التي قد تفضي إلى انتهاج سياسة تقشفية شديدة الوطأة على السلم الاجتماعي المهدّد بفعل الأخطاء السياسية وضعف الاستشراف والقدرة على احتواء جذوته من قبل حكّام ما قبل 2011 وما بعده.
صحيح أنّ خطاب الشاهد أمام أعضاء البرلمان كان قد قوبل بردود فعل ايجابية تنمّ عن نجاح نسبي وظرفي من الناحية الاتصالية،لكن الاهم في الفترة المقبلة سيكون حتما ضرورة استعادة ثقة المواطن وعموم الشعب في امكانية حصول تغيير ايجابي يعيد الامل لكلّ الحالمين بتونس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ودولة المواطنة والحريات الاساسية التي من شأنها أن تكرّس شعار الكرامة الوطنية.
تركيبة حكومة الوحدة الوطنية كما يطلق عليها مساندوها ، وهي التي كانت مثار جدل واسع وانتقادات جمّة لاسيما بخصوص بعض الاسماء، قد يجوز القول بأنّها رغم توسيع قاعدتها السياسية والاجتماعية من خلال تشريك أطياف واسعة فيها من مكونات العائلات الفكرية وقوى المجتمع المدني الوازنة،لا تخلو من تناقضات داخلية وتهديدات تشوب مستقبلها الذي لن تنجح فيه الا اذا ما حقّقت الحدّ الادني من الانجازات والاستحقاقات المطلوبة.
إنّ التشخيص واعلان النوايا الذي قدّمه يوسف الشاهد أمام البرلمان سيظّل منقوصا طالما لم يوضح آليات تنفيذ البرنامج الحكومي الذي عكس ضربا من ضروب التغيير في نطاق الاستمرارية.فمرور حكومة الـ40 وزيرا وكاتب دولة لتنفيذ تعهدات يتطلب كشفا صريحا عن الوسائل والحلول التفصيلية التي سيتم الالتجاء لها لوقف نزيف المديونية ودفع عجلة الانتاج والانتاجية بقوّة القانون ومقاومة الفساد والارهاب والاقتصاد الموازي والتهرب الجبائي فضلا عن معالجة عجز الصناديق الاجتماعية واسناد الدينار التونسي المترنح بطبعه.
في الحقيقة،لن تتوقف التساؤلات المطروحة على رئيس الحكومة الجديد عند هذا الحدّ،فالشاهد رغم أنّه حاول كشف النقاب عن بعض الحقائق المتعلقة بالمطبخ الداخلي للدولة التونسية ،وقد بدت في موضع العاجزة مع تكرّر الاستطرادات التي تشي بمؤشرات العجز في عديد المجالات والقطاعات، فانه لم يقدّم اجابات ضافية وشافية حول أسباب تضارب الارقام التي قدّمها مقارنة بسلفه الحبيب الصيد سواء في علاقة بمسألة المديونية أو ملف الانتدابات في الوظيفة العمومية وفي مؤسسات الدولة خاصة زمن حكم الترويكا والتي أثقلت الميزانية وضاعفت كتلة الاجور.
لقد كان حريّا بالشاهد أنّ يوضح للرأي العام منهجية وآليات الاصلاحات المزمع القيام بها من قبل حكومته ولاسيما التكلفة التي ستدفعها المجموعة الوطنية كضريبة لشرّ بات لابدّ منها في ظلّ التخوفات المستعرة حول امكانية أن تكون الطبقات الاجتماعية الوسطى والضعيفة أشبه بـ"عقب أخيل".
من المعلوم أنّ "مجتمع المقروضة" الذي أفرزته سياسة دولة ما بعد الاستقلال لاسيما خلال العهد البورقيبي بفضل بروز طبقة وسطى من "العيّاشة" كما يقال باللهجة التونسية قد ساهم في شبه استقرار اجتماعي ساعد على تمتين الجبهة الداخلية إزاء عديد التهديدات والمخاطر وقتذاك وتحقيق منجزات هامة من بينها مدرسة الجمهورية. في المقابل،فإنّ حصيلة هذه المنجزات تراجعت اليوم بعد أن تآكلت الطبقات الوسطى ليشهد بذلك الهرم الاجتماعي في تونس اختلالا مفزعا تكشفه مؤشرات الفقر وعجز المواطن عن مجابهة مصاريف الحياة اليومية مع تفشي البطالة وغيرها من الظواهر المؤرقة.
وإزاء هذا فإنّ السؤال الاهم الذي ينتظر ردّا حاسما من قبل يوسف الشاهد وأعضاء حكومته التي تمّ تطعيمها بشخصيات نقابية ويسارية من الخطّ الديمقراطي الاجتماعي هو: هل سيمضي رئيس الحكومة في تنفيذ الاصلاحات المعلن عنها وفقا لتوزيع عادل وعقلاني على جميع فئات المجتمع التونسي أم أنّ "خدّام الحزام" و "المواطن الشهّار" هو الذي سيتحمّل وزر الجمل بما حمل تحت اكراهات صندوق النقد الدولي؟