17
يسرى الشيخاوي-
"بين النور والظلام لحظة..ظلام حالك دامس.. عينين ماكنتها غشاوة.. الطريق واعر أرضه شوك.. الساقين حفيانة والحمل رزين.. كل شيء حزين العقل والبدن والقلب والعين.. الضحكة صفراء وعثرة وراء عثرة وزيد على قدام.. خائفين مغمضين وبعصاة الذل مضروبين.. وغاب الطريق في خطوط الدوائر"، هذه بعض الكلمات التي انطلق بها عرض مسرحية "كونترا" في فضاء "التياترو" وهي نفس كلمات النهاية.
"الكونترا باقية وتتمدّد..
و"الكونترا" عمل مسرحي من إخراج الطيب الملائكي وإنتاح مركز الفنون الدرامية والركحية بالقصري سينوغرافيا منير سامعي وتمثيل رياض ميساوي وليد خضراوي كريم الروافي جمعي المعمري شيماء مباركي سامي العمري، تدور أحداثه في التسعينات في مصنع مهجور حيث يحرك "سي الشريف" خيوط "الكونترا" او التهريب بأيادي زوجته وبعض العاملين لديه.
في مهام "الكونترا" هامش الخطأ لا يجب ان يجاوز الصفر، ولا مكان للزلات والهفوات، والكل قابل للتطويع من أجل إنجاح عمليات التهريب، بل يمكن ان يكون الجميع مداسا وممرا ل"سي الشريف" الذي يراكم ثروته بكل ما اوتي من مقدرة على خرق القانون وانتهاك الإنسانية.
في المصنع المهجور، تتلاشى معالم الانسانية، ويتحول الآدميون إلى آلات مبرمجة على التخطيط لمهام "الكونترا" وتنفيذ تعليمات "سي الشريف"، ولكن التابعون "تمردوا" حينما سقط الرأس المدبر وتضاربت مصالحهم حتى فرخت مشاكل متشابكة أدت إلى سقوط المنظومة وموت الماكينة لكنها لم تقض على "الكونترا" فهي باقية وتتمدّد إلى اليوم.
ما أشبه الأمس باليوم..
احداث العمل المسرحي تعود إلى التسعينات ولكن الأمر لا يختلف كثيرا عما يحصل اليوم، فالتهريب او "الكونترا" آفة تهدد الاقتصاد الوطني والأمن العام لوجود ارتباط وثيق بينها وبين ظاهرة الإرهاب.
ومافيات التهريب كما جماعات الإرهاب لا تفرق بين امي ومتعلم في خدمة مصالحها تستقطب الجميع إلى مربع "اللاإنسانية" حيث كل شيء مباح ولا شيء يعلو فوق الفوضى.
و"سي الشريف" ليس إلا مثالا عن الرؤوس المدبرة في مافيات التهريب، هو الحاضر بالغياب الذي يقدّس تابعوه تعليماته، ويسعون إلى تنفيذها بحذافرها، هو يتلاعب ببعض المتسلقين والانتهازيين الذين وجدوا في التهريب طريقا قصيرة لجمع الثروة، وهم على يقين بأنها وعرة وتكسوها الاشواك، وهو أيضا يتلاعب ببعض الجبناء الذين علقت كلمة "لا" في حلقهم.
وفي مسرحية "الكونترا" سقط "سي الشريف" وأكلت المنظومة أبناءها الذين أغرق بعضهم في الجبن وبعضهم الآخر في الخبث، ولكن ظاهرة "الكونترا " مازالت قائمة وما أشبه الأمس باليوم.
هناك دائما من يمسك بخيوط اللعبة..
رئيس مافيا التهريب لم يكن حاضرا بجسده دوما في المصنع المهجور ولكن مخططاته كانت تخيم على كل النقاشات ويكاد نص المسرحية لا يخلو من إسمه إلى حين سقوطه.
و"سي الشريف" كان يمسك بخيوط اللعبة ويتحكّم في كل تفاصيلها، وقد يضحّي بأقرب المقرّبين من أجل أن يضمن استمرار مصالحه، وقد يسخّر زوجته في مهام "قذرة" من أجل أن تمتدّ جذور مافيا " الكونترا"، زوجة تستعمل جسدها والغواية لتحقيق مآرب زوجها، زوجة ترفع لواء الخيانة في سبيل "المافيا".
"سي الشريف" هو مثال للحيتان التي تحبّ المال حبا جما وتأكل كل ما يعترض سبيلها لتضمن ديمومتها في عالم "المافيا" و"اللوبيات"، حيتان تسقط إحداها لتُبعث أخرى حاملة لواء الخروج عن القانون.
ومسرحية "كونترا" تعرّي واقع مافيات التهريب في تونس، واقع لا ينتهي ولا يعرف نهاية في ظل تواطؤ بعض أجهزة الدولة الذي لمّح له الممثلون على الركح، واقع ينبعث من الرماد في صور وتجليات مختلفة، يتغيّر الماسكون بخيوط اللعبة ولكن تظل اللعبة متواصلة.
الحقيقة لا تتجلّى عارية..
في المسرحية تبدو لك كل الأمور مكشوفة مفضوحة، ويبدو لك أن الجميع رهن أوامر "سي الشريف"، ولكن تضارب المصالح بين زمرة من المتسلقين قد يخفي حقائق أخرى لا تتجلّى إلا حينما تتفاقم المشاكل وتبلغ ذروتها بين " المادام" وهي زوجة سي الشريف و"فافاتي" و"أبو العز"، و"المزوري" و"اسكندر" العاملين لديه.
"كونترا" تثبت أن الحقائق لا تتجلّى عارية وأنّ الشيطان يسكن في التفاصيل، فالنص الذي يُعدّ أحد نقاط القوة في العمل المسرحي لمّح إلى أنّ التهريب يمكن أن يكون بوّابة للإرهاب وهو ما يتجلّى في حوار شخصية "المزوري" الذي كان يشير إلى الاستقطاب.
والعمل المسرحي يؤرّخ لطبيعة الإنسان الذي ما فتئ يتأرجح بين الخير والشر، وقد يتنازل عن مبادئه تحت سطوة الثروة والنفوذ، عمل تظافرت فيه المؤثرات الصوتية والبصرية والتعبيرات الجسدية للممثلين الذين رقصوا وغنوا وتحمّسوا، ليبلغوا إلى الجمهور عددا من الرسائل التي تراوحت بين الانساني والاجتماعي والسياسي.