عن فيلم ” في بلاد العم سالم”.. هل حقّا مرّت الثورة من هنا؟

يسرى الشيخاوي-
رجل اشتعل الشيب في رأسه وتركت السنين أمائرها على محياه الأسمر يداعب وجه الحائط بطلاء أبيض لعله يمحي أثر السواد من تفاصيله، ومع كل عناق تتناثر قطرات الطلاء على وجهه ليحاكي لونها لون شيبه.
من لملمة جراح الحائط إلى رتق الشقوق في بلور النوافذ وري عطش التراب، يسكب الرجل في كل مرة بعضا من روحه لتتزين المدرسة التي يحرسها، إنه العم سالم بطل فيلم " في بلاد العم سالم" للمخرج التونسي سليم بلهيبة.
في المدرسة الابتدائية عين الرقاد بمرناق فاتحة الفيلم وخاتمته، وفي تفاصيل المدرسة التي تنطق بؤسا وكآبة يتجلّى زيف العدالة الاجتماعية وإصلاح المنظومة التربوية بدءا بردع صدع المؤسسات التربوية التي تكاد تسقط على رؤوس المربّين والتلاميذ.
أياما قبل العودة المدرسية، لا يملك الحارس إلا أن ينثر بعض التغيير على المدرسة ما استطاع إليه سبيلا، وحاله يعكس حال الكثير من حراس المدارس التي اهترأت حيطانها من فرط انتظار تدخل الدولة.
ذكريات كثيرة تقفز إلى ذهنك وأنت تلاحق كاميرا سليم بلهيبة التي توغل في التفاصيل فتستفزّ ذاكرتك أكثر وتستأنس بالألوان والموسيقى والضوء لتجعلك تستحضر سنوات الطفولة والطريق إلى المدرسة وبابها الخارجي والأقسام والمقولات المخطوطة على الحيطان.
وسيناريو الفيلم الذي كتبه سليم بلهيبة بسيط بعمق يروي فيه واقع تونس بعد الثورة ويصوّر فيه ملامح اليأس الذي اعترى القلوب والخيبات المتواترة والمطالب المبعثرة على قارعة الأهواء السياسية والمصالح الضيّقة.
على نسق الكاميرا التي تقنص الوجع في ملامح "العم سالم" وفي ثنايا الراية الوطنية التي غزتها الفتوق وتفرقت خيوطها كما تفرّقت مطالب الثورة وتاهت على أعتاب الحكومات المتغيرة، يتبدّى حال تونس التي عمقوا جراحها وسرقوا ثورتها وباعوا الكذب للحالمين.
من مشهد العلم الذي أكلته الشمس والريح والمطر، تتواتر المشاهد ووتتواتر معها الإسقاطات على واقع تونس اليوم في فيلم ركن إلى الصمت للتعبير عمّا يعجز الكلام عن وصفه وكان الأداء غير اللفظي لشريف مبروكي الذي أدّى دور العم سالم مقنعا حدّ العفوية.
وإن تعود أحداث الفيلم إلى سنة ثلاثة عشر وألفين، أي سنتين بعد أحداث الثورة، فإنها تبدو صالحة إلى أن يتلاشى الوهم والزيف من خطابات المسؤولين وإلى أن تلفظ تونس كل من خانها وذرّ الملح على جراحها المفتوحة.
ومشهد العلم الذي بلي ولم يتغيّر حتى بعد محاولات العم سالم فيه إحالة إلى امشهد العام في تونس التي يجهض فيها البعض محاولات الإصلاح قبل أن ترى النور  وستجيرون منها بالحلول الترقيعية حتّى توسّعت الفتوق وصار من الصعب رتقها.
بل إنّ من يحاول الإصلاح يدفع ثمنا باهضا في أحيان كثيرة، فسعي "العم سالم" إلى اقتناء علم جديد كلّفه حرّيته، أيّاما من السجن عانق إثرها النور ومسحة من اليأس غزت قلبا لا أحد يعلم متى تمّحي.
تفاصيل سجن العم سالم موجعة، وصورته وهو يتشبث بالراية الوطنية تعكس كل نفس وطني غيور على تونس، والأشدّ وجع هو رفع العلم البالي خلال العودة المدرسية ليظل الوضع على حاله بعد تضحيات العم سالم، ولتتساءل " هل حقّا مرّت الثورة من هنا؟"
وحكاية " العم سالم" ليست إلا بعضا من الاحلام المسروقة والثورة المؤودة، ولكن  حينما تجول بعينيك بين التلاميذ وهم يتلون النشيد الوطني بكل ما أوتي من حماس يتسرّب إليك الأمل، أمل يحتضر لكنّه لا يموت.
الفيلم المحمّل بالرسائل والمعاني والذي انتهج فيه المخرج سليم بلهيبة أسلويا إخراجية يداعب أوتار العواطف ويقحم المشاهد في كل تفاصيله، حار على جائزتي الجمهور
 في كل من مهرجان الفيلم الإفريقي ببلجيكا والمهرجان الدولي لسينما المؤلف بالرباط.
وكان حاضرا في المهرجان السينمائي الدولي رؤى من افريقيا مونريال ومهرجان الفيلم العربي بترونتو ومهرجان الفيلم القصير باليونان ومهرجان تيرانا السينمائي الدولي البانيا ومن المنتظر ان يشارك في مهرجان الفيلم القصير في مدغشقر ومهرجان البحرين السينمائي ومهرجان مشارقي للفيلم الافريقي بروندا.
 
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.