يسرى الشيخاوي-
هي نصف الحياة، والبياض، والربيع، وقطرة غيث لأرض قاحلة، هي خلاصة كل الشعر ووردة كل الحريات، هي إمرأة في كل الأوقات، هذه كلمات لنزار قباني إذ يتغنى بالمرأة، المرأة التونسية.
و”كل امرأة جميلة هي مسلحة بصورة طبيعية”، ومن بين أسلحتها صوتها، صوتها ثورة، صوتها صدى يتردد في ذرات الطين الذي خلقنا منه،نفحات من الجنة حملتها حواء في حنجرتها وهي تغادرها، صرخة في وجه القمع، ابتسامة في وجه القدر وتعبيرة فرح.
وفي عيد المرأة، كانت سهرة “الطرب والنوبة” ليسرى محنوش عنوان الاحتفاء بالتونسيات، سهرة كان فيها للنشيد الوطني وقع خاص والنساء يرددن كلماته في المدارج رافعات راية تونس.
ويسرى محنوش هي الفنانة التي سمّاها كاظم الساهر سيدة الطرب العربي، هي صاحبة النبرات العذبة، هي تلك الطفلة التي شدت الجمهور بصوتها الأكبر من جسدها منذ سنوات.
وهي تعتلي ركح قرطاج في عرض هو الثاني، عرض راوحت فيه بين أغاني الطرب والنوبة، لعلّها ترضي كل الأذواق الموسيقية، كانت إطلالتها مميزة يغلب عليها الطابع الاحتفالي، هي إمرأة في عيدها تلألأت بفستانها الفضي وزادتها الاضواء والألعاب النارية ألقا.
ولأن تونس أنثى غنت لها محنوش في عيدها ” تونس الأبية يا وطني”، وأطلقت العنان لاوتارها الصوتية تراود القلوب ليتردد صدى آهاتها في مدارج المسرح الأثري بقرطاج، صوتها صرخة حرية وربما ثورة، صوتها يستحضر كل تلك الأزمنة التي مرت على تونس، تلك الأزمنة التي خطّ الدم بعض فصولها.
وب”فات المعاد” و”الاطلال” و”في يوم وليلة” و”ولو سألوك” و “أما براوة” و”ابتدى المشوار” و”أمانة يا دنيا” أخذت يسرى محنوش جمهورها إلى الزمن الجميل حيث للكلمة وقعها وللألحان سحرها، كان صوتها نبض قلب الصحراء وأنفاس قمم الجبال، بصوتها كتبت إلياذة الحب.
وب”حبيب آمالي” و”بأفكر فيك” و “انا عمري” و”اسكت بس” و”روحي دادا” وهي إنتاج عراقي جديد وهبته لجمهورها في قرطاج، واصلت ترتيل ترانيم الحب على وقع عزف فرقة يقودها المايسترو عبد الباسط بلڨايد”.
وما أعذب نغمات العود وهي تنبعث من أنامل عازفة، من أنامل إمرأة في عيدها، إمرأة سلاحها النوتات الموسيقية،
وكم مرة أعلنت نغمات الكمان عن ميلاد لحظات العشق، وحكت نغمات القانون والبيانو قصص الحنين ووجع العشاق.
وبين النوتات، انبعث صوت يسرى محنوش من العمق، وكأن الزمان والمكان لا يحدانه، صوت يمتد إلى نبضات القلب والدماء السارية في العروق يراود خلايا المخ وبستحضر ذكريات الطفولة والمراهقة بما تحتويه من مغامرات وحماقات، صوتا تمايل معه الجمهور طربا وترجم تفاعله معه بالهتاف والتصفيق.
ويبدو أن يسرى محنوش العفوية جدا على المسرح ضاقت ذرعا بلقب سيدة الطرب العربي، اللقب الذي يلقي بكثير من المسؤوليات على عاتقها، فخلعته عنها في أكثر من مناسبة، فتراها تتمايل على صوت الجمهور وهو يردد” يسرى يسرى” أو تدلع قائد فرقتها “بسوطة بسوطة” او تطنب في توزيع القبلات على جمهورها.
يسرى محنوش وإن استوعبت درس أن الصوت وحده غير كاف لاقتلاع مكان في الساحة الفنية فإنه لزام عليها أن تستوعب أن التفاعل مع الجمهور معادلة كيميائية كمياتها دقيقة لا يجب زيادتها او نقصانها.
هي صاحبة إمكانيات صوتية عالية بشهادة النقاد وكبار الفنانين، ولكن أن لا تحدد مقاما لمقالها وأن تسرف في التفاعل مع جمهورها فإن ذلك من شأنه أن ينزع عنها هالة “الوقار” التي لقيتها بلقب سيدة الطرب العربي، وهذا لا ينفي بأي شكل من الاشكال النجاح الجماهيري لحفلتها التي تعد تذاكرها الأكثر مبيعا في الدورة الحالية لمهرجان قرطاج الدولي.
وقد عرفت محنوش من أين تؤكل الكتف فأدمجت النوبة في حفلتها، مراودة حب الجمهور لكل ماهو نابع من التراث التونسي، وفعلا تراقصت الأجساد على إيقاع “الطبلة” و”الدربوكة”، وكانت الجماهير بسكارى وماهي بسكارى وأخذتهم أنغام الناي و”الشقاشق” إلى الأجواء الروحانية، ورقصوا على “خديجة”.
وعلى إيقاع “يا بلحسن يا شاذلي” و”يافارس بغداد ياجيلاني” وبابا بحري” وراكب ع الحمراء”و”سيدة يا النغارة”، “تخمر” الجمهور في المدارج وتمايلت الرؤوس طيلة الجزء المخصص النوبة التونسية.
ولم تنس يسرى محنوش ان تغني أغنية ، “ميحانا” تلك الأغنية التي تحوي بين كلماتها صوت الشهيد شكري بلعيد.
وإن كان حفل محنوش ناجحا جماهيريا، وإن نجحت في إبراز قدراتها الصوتية من خلال الغناء بأكثر من لغة وإن حلّق الجمهور بأجنحة صوتها، إلا أن ذلك لا يحجب بعض الهوامش التي كان من الممكن الاستغناء عنها خاصة وأنها الملقبة بسيدة الطرب العربي.