عن “جنازة” الباجي قائد السبسي.. تونس الإجابة لألف سؤال وسؤال

يسرى الشيخاوي-
 
تتغير السياقات وتتبدل الأسئلة وتظل تونس الإجابة لألف سؤال وسؤال مرورا بالثورة وصولا إلى "جنازة" الرئيس التونسي الحاضر رغم الرحيل، الباجي قائد السبسي.
 
وفي تونس، قد تبدو لك بعض الأحداث سريالية مقارنة بدول مجاورة وكأنّها حكايات من ألف ليلة وليلة، حكايات تثير عاطفتك وعقلك وتدفعك دفعا إلى التفكّر في هذا البلد الذي ما انفكّ يمثّل استثناء في المنطقة العربية.
 
واليوم تخطّ البلاد الصغيرة مساحة والعظيمة تاريخا وحضارة فصلا جديدا في الاستثناء، فصل تماهت فيه الدموع والابتسامات، واختلطت فيه ملامح الحزن بمعالم الفرح حتّى انّك لا يمكن أن تقيم الميز بينهما.
 
ساعات لن تسقط من ثقوب الذاكرة، محظوظ من عاش لحظاتها عن كثب، ففيها تمظهرت الوحدة الوطنية الحقة بعيدا عن الشعارات السياسية الواهية، وفيها وحّد رحيل الباجي قائد السبسي مواطنين فرّقتهم الاختيارات والانتماءات.
 
نساء ورجال وأطفال، هبوّا هبّة رجل واحد وتمترسوا على جنبات الطريق التي رُسمت لموكب "الجنازة"، من قرطاج إلى الجلاز كانت تونس بهية حالمة جامعة لكل أبنائها.
 
مواطنون جاؤوا "يبكون" رئيسهم كل بطريقته، بعضهم بكى حتى سال الدمع على خدّه، وبعضهم ابتسم قاطعا الطريق على عبرات ترقرقت في عينيه، وبعضهم هتف باسمه، وبعضهم الآخر خيّر الصمت أمام هيبة الموت، اختلفت تعبيرات "البكاء"، وتوحّد خطّ سير التونسيين يتبعون جثمان رئيسهم إلى مثواه الأخير.
 
ومن شارع محمّد الخامس، مرّ موكب مهيب لرئيس خلّد اسمه في ذاكرة التونسيين، بأسلوبه المتفرّد وقدرته على خلق الضحك من رحم السوداوية، وكثيرة هي العبارات التي ارتبطت به في المخيال التونسي من "الكوع والبوع" إلى " أحب من أحب وكرخ من كرخ" وغيرها…
 
لحظات من الصمت، سبقت مرور الموكب، ربّما هي هيبة الموت خيّمت على المكان وربّما هي فرصة أخيرة لاستيعابه، قبل أن يطلّ "الخيّالة"، وتصدح حناجر مواطنين لم يثنهم القيظ عن انتظار رئيسهم لساعات "حماة الحمة يا حماة الحمى هلموا هلمّوا لمجد الزمن".
 
ولا يلبث أن يلبّي حماة الوطن من أمنيين وعسكريين النداء، ويسبقوا السيارة العسكرية التي تؤوي جثمان القائد الأعلى للقوات المسلّحة، تشكيلات مختلفة لأمنيين وعسكريين من الجيوش الثلاث، مشهد قد تعجز العبارات عن وصفه ولكن من عايشه سيحمل معه كل تلك الصور الى المستقبل ليباهي بها.
 
لا شيء يحميهم من حر الشمس، يرابط المواطنون بالحواجز الحديدية يتأملون من ورائها موكب رئيس انتخبه بعضهم ولم ينتخبه آخرون ولكنهم كانوا حاضرين لوداعه، حتّى أن الفرقاء ساروا جنبا إلى جنب في مسيرة الموكب إلى شارع الحبيب بورقيبة.
 
وعلى امتداد شارع محمد الخامس ( على مستوى نهج غانا)، توشّح مواطنون براية تونس التي بدا حمرتها أكثر توهجا وبياضها أكثر نصاعة، وتماهت كلمات النشيد الوطني مع الزغاريد وشهاقات البكاء وتحايا للوطن وتلبّست المشاعر.
 
هو يوم تاريخي، كتبت فيه تونس أجوبة كثيرة عن أسئلة أكثر، أسئلة عن الانتقال الديمقراطي، والسلطة، والرئاسة، والمواطنة، والحّرية، وعن الإنسانية، يوم كان فيه التونسيون محطّ أنظار وفود من دول صديقة وشقيقة، حتّى أن بعض ممثليها وثّقوا انفعالات بعض من الشعب لحظة مرور رئيسه.
 
وكثيرة هي المشاهد التي تشدّك، في "جنازة" ليست بالجنازة، بل هي لحظة فاصلة بين الحياة والموت، أشبه بالولادة، ذلك الفعل الذي يختلط فيه الفرح بالحزن والألم بالأمل، فمن رحم الارتباك الذي خلفته الساعات الاولى عقب الاعلان رسميا عن وفاة الرئيس وُلد فخر بتجربة فريدة وانتقال سياسي سلس.
 
رايات وورود رافقت جثمان الباجي قائد السبسي، وصدى  تردّد  في شوارع العاصمة والأيادي ارتفعت بالتحايا، والاجساد  تزاحمت لترافقه إلى الجلاز حيثُ يرابط مواطنون منذ الصباح ليودّعوه، وفي الأثناء طائرات حربية تلاعب الغيوم في السماء وينبعث منها دخان بلون الراية الوطنية.
 
 وفي العلياء تحلّق الطائرات، ويغويك صوتها بمتابعة حركاتها فتتبين الخيط الأبيض من الأحمر وسط شعور بالفخر بجيش وطني ينكرو منتسبوه ذواتهم ليحيا الوطن بعزّة فكان أحد عناوين الاستثناء في تونس.
 
"تونس في عينيك يا سي يوسف" يصرخ أحد المواطنين حينما يلمح سيّارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي لوّح بيديه إلى المرابطين بالحواجز الحديدية حينما مر موكب الرئيس، كلمات قد تبدو للبعض عادية ولكنّها تحمل بين ثناياها حبّا صادقا للوطن تستشفه من طريقة لفظها.
 
وفي الطريق إلى الجلاز يلتحم المواطنون القادمون من محمّد الخامس بمواطنين انتظروا رئيسهم في شارع الحبيب بورقيبة، وتتردّد في الأثناء شعارات مجمّعة موحّدة عنوانها الراية والوطن.
 
وعلى الضفّة الأخرى من الموكب، في الجلاز، يوزّع الامنيون قوارير الماء على المواطنين ليخفّفوا عليهم الرمضاء، وهم الذين أبوا إلا أن يلقوا نظرة الوداع على رئيس رحل جسده وستظل ذكراه خالدة.
 
وعلى إيقاع الموسيقى العسكرية، ترجّل الرؤساء والوفود الرسمية المشاركة في موكب الدفن قبالة المقبرة ليشيعوا جثمان أوّل رئيس تونسي منتخب، ومع انطلاق مراسم الدفن بدأ المواطنون ينفضون من حول المقبرة وخفتت الشعارات والهتافات لتصدح مآذن جوامع العاصمة بآيات من القرآن.
 
وتونس اليوم، كتبت الكثير والكثير على صفحات التاريخ، وصرخ مواطنوها " نحبّ البلاد كما لا يحب البلاد أحد"، ويبدو أنه لا شفاء من حب هذه البلاد التي ما انفكّت تجيب عن أسئلة مازالت تبارح مكانها في دول أخرى.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.