حوار الشهداء.. عن الموت الرحيم ولعنة أهل الأرض

 أمل الصامت –

الجمعة 25 سبتمبر 2020.. العثور على جثة الفتاة المفقودة رحمة لحمر.

الاثنين 5 أكتوبر 2020.. سقوط طفلة التسع سنوات فرح في بالوعة…

أخبار مريعة كنت أتابعها بألم قبل 24 ساعة فقط من ملاقاة نفس المصير، والرحيل بعيدا عن عالم الأخبار المقرفة والحقائق المشوهة وتوضيحات المسؤولين الكاذبة ونفاق كل المنظومة بسياسييها وإدارييها ومختصيها حتى أطبائها وحقوقييها.. نعم هكذا تراءى لي ذلك العالم الذي كنت أعيش فيه والطائرة تتهاوى بي من ذلك الارتفاع الذي كنت أتقن الوصول اليه لولا خانتني ذات 6 اكتوبر 2020 تلك الطائرة العجوز.

كنت أفكر في أمي وزوجتي، في أختي وابنتي، في أصدقائي، وكم سأشتاق إلى كلمة "بيكو" وهم ينادونني بها.. كنت أتساءل هل ستتذكرني ابنتي عندما تكبر وهي التي لم ترني سوى سنتها الأولى في الحياة.. كم كانت اللحظة مرعبة وانا أسقط من علو درست كثيرا وتدربت جاهدا كي أتعلم الوصول إليه وأحلق تحت سماء تغطي أرضا أعشقها، أرض تونس التي لن ينال منها مكر السياسيين ولا طمع الفاسدين مادام حماتها أبطال مازالوا مستعدين لركوب مثل طائرتي التي خانتني.

ثواني معدودات تلك التي استغرقتها هاويا نحو الارض، ولكنها كانت مليئة بالذكريات والانتظارات.. نعم انتظارات ما بعد الحياة.. ولا تسخروا مني فهول اللحظة كفيل بأن يحملك إلى أبشع الكوابيس، لولا التقيتهما مباشرة بعدما استسلمت للمصير المحتوم.. نعم التقيت رحمة وفرح اللتين كنت قد قرأت عن موتهما قبل ساعات.. حتى أني بكيت سرا عندما خيل إلي للحظة أن إحداهما شقيقتي والاخرى ابنتي..

ربما حينها أيقنت لأول مرة أنني أغادر شهيدا لا مجرد رقم في سجل الوفيات.. فما أروع ان تلتقي روحك في طريقها إلى السماء الـ"رحمة" والـ"الفرح" وأنت الذي مازالت دماء جسدك تنزل ساخنة على الأرض.. كم أحببت ذلك النور المشع الذي قادني إلى مأواي الأخير حيث أستطيع التحليق دون التفكير في عطب قد يطرأ على طائرة تصلح للمتاحف لا للسماء.

جلت بعيني قليلا أتعرف على عالمي الجديد، ثم تذكرت أنني لربما كنت محظوظا لأعرف قبل أي شخص آخر ماذا حصل لرحمة لحمر التي اهتزت لها البرامج التلفزية والإذاعية وتصدرت حادثتها عناوين الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي حتى أنها اثارت حربا حقوقية بين مؤيد لتطبيق حكم الاعدام ورافض له، وكيف انتهى الأمر بالطفلة فرح في مجرى لمياه الصرف الصحي، وهل كانت لحظة انتقالهما من عالم الأرض إلى عالم السماء صعبة أم انها بضع لحظات مثلما كانت بالنسبة لي.

لم ألبث ارتب الأسئلة في ذهني حتى اقتربت مني رحمة، وكم كانت جميلة بثوبها الأبيض كعروس في ليلة زفافها، وقالت: "لا تفكر كثيرا فلحظة الشهادة تمر كوميض البرق في ليلة ممطرة قد ترتعب لها ولكنها تبعث إلى داخلك المظلم نورا لا يزول سريعا.. لا أنكر أنني تألمت عندما كانت مخالب ذلك الوحش تشق جلدي الرقيق ولكني خلقت لأحضى برحمة من السماء لا رحمة في أرض ملؤها اللعنات.. نعم لقد حضيت بموت رحيم جعلني بمعزل عن نظرة شفقة لعلها كانت لتخفي وراءها احساس احتقار أو تشفي"…

لم تحدثني عن تفاصيل ما حدث لها ولم أتجرا على إجبارها.. وكانها تقول لي اترك الأمر لصاحب الأمر فهو الذي يمهل ولا يهمل ودعنا من حكايا الأرض التي انهكتنا لنستمتع بما حضينا به من رحمة…

ابتسمت أنا وتركت هي مكانها لفرح.. كم كان وجهها بشوشا، وكم كانت جميلة بضفائرها الناعمة.. لم تكن تشبه تلك الصورة التي شاهدتها لها على صفحات الفايسبوك، فملابسها لم تعد بالية وحذاؤها لم يكن من البلاستيك وشعرها ليس أشعثا، ولكن في ابتسامتها فرح حقيقي..

كنت مازلت أتكلم مع نفسي عن هيئتها الملائكية حتى همست بصوتها الطفولي البريء قائلة: "لم أكن لأتحمل رائحة العفن في المجاري أكثر، كانت لحظة لمس جسدي كل تلك القذارة ورأت عيني كل تلك العتمة مرعبة، حتى تراءت لي صورة العالم الذي نعيشه اليوم، وكم كان جميلا مقارنة بما عشته طيلة السنوات التسع الماضية.. فلقد تعبت حقا من المشي ليلا وراء أمي أجمع قوارير البلاستيك وبقايا الخبز افتش عنهما على الرصيف وبين القمامة، بل وتعبت أكثر من رؤية امي تفعل ذلك.. كم حلمت أن أكمل دراستي وأصبح ذات شأن كبير لأريحها من كل ذلك القرف، ولكن القدر أراد لي موتا رحيما مريحا قبل أن أريحها وليس لي في ذلك مشيئة.. وقد أكذب عليك، ولم أتعود الكذب، إن قلت أنني لم أجد فيما لاقيت هنا في السماء الفرح وأنا التي كتب اسمها على دفاتر الأرض فرح".

هي الأخرى خيرت أن تبتعد عن رواية التفاصيل، ولم أعد حقا أريد معرفتها.. وكأن النظر إلى الفرحة في عيني فرح بعالمها الجديد سحر يمحو عنك ذكريات الأرض خاصة البشعة منها.. فربما سوف نشتاق لأحبة يحزنون لفراقنا، ولكن الموت أرحم فعلا من مرتع للمجرمين اضطرت رحمة للمرور به لسنوات ذهابا وإيابا من أجل لقمة العيش، في حين تمعش الفاسدون في الإدارة من ميزانيات رصدت لتهيئة المكان طيلة عقود، ومن بالوعة غفل ديوان التطهير أو البلدية عن إقفالها بغطاء حديدي سرقه منحرفون ليشتروا بثمنه خمرا ومخدرات وتذهب فرح ضحية تقصير ذلك المسؤول واستهتار ذاك المنحرف…

أما أنا فربما يكون موتي عبرة تنقذ بقية زملائي من مصير مشابه.. فكم من طيار في المؤسسة العسكرية رحل بنفس الطريقة وما من مسؤول حرك ساكنا.. لعل الوقت حان ليتوقفوا عن الاكتفاء بالتقاط الصور إلى جانب والدة الشهيد وزوجة الشهيد وأبناء الشهيد.. ثم تسند الترقيات من أجل بضع ملاليم تضاف إلى جراية أرملة الشهيد.. ويسدل الستار على خطب الحكام في مناقب الشهيد.. وتنتهي مسرحية الشهيد إلى عرض جديد تتغير فيه الشخصيات رغم ان القصة واحدة…

حقا للشهيد عند أهل السماء مكانة أرقى وأسمى بل وأرحم من لعنة أهل الارض، فكم أنت رحيم أيها الموت.

 

*ملاحظة: كل ما ورد في هذا المقال هو محظ خيال وتخليد لذكرى شهيد حادث سقوط الطائرة العسكرية الطيار مهدي بوبكر وشهيدة جرائم الاختطاف والاغتصاب رحمة لحمر وشهيدة تقصير المسؤولين واستهتار المنحرفين الطفلة فرح.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.