يسرى الشيخاوي-
حينما كنت طفلة كنت أعشق كل مأكول أو مشروب يترك أثره على شفتي، كنت أرى في التوت والرمّان والسواك أحمر شفاه يلوّن شفتي ويشعرني أنّني أميرة، كنت أعضّ على شفتي بشدّة حتّى ينحصر الدم فيهما ويتغيّر لونهما.
كنت أقتني العلكة الملوّنة وأمررها على شفتي قبل أن التهمها وأمتّع أذني بوقع عناقها مع أسناني، وكنت أنتشي بأثر الألوان في فمي ولا أعبأ بالملاحظات من حولي وكأنّ الصمم أصابني.
هي بعض ذكريات الطفولة التي ارتبطت في ذهني بمفردات من قبيل "عيب" "حرام"، ومنها انطلقت رحلة الوصاية على شفتي وعلى جسدي ولكنني لم أرضخ وكان العناد وسليتي في إسكات كل الألسنة التي تريد ان تكبح نشوتي بما أفعل.
كبرتُ وكبر حبّي لأحمر الشفاه، ومازلتُ إلى اليوم لا اعي سيل التعليقات التي يدرّها تلوين طفلة صغيرة لشفاهها حتى أنني لا أنسى أنّ إحدى " الحكيمات" في عائلتي صفعتني بكلمات لم ّاجد لها إلى اليوم تصنيفا " نحّي من فمّك لا ربي يشنقك من شفايفك".
لم أشعر بالخوف حينها وابتسمتُ ابتسامة مازالت ترتسم في ذهني كلّما أحسستُ ان كلماتي أقيم من أن أهدرها في نقاش عميق واشتريت علكة حمراء قانية وزينتُ بها فمي حتى سال لونها وبلغ ذقني وأنفي ووجنتي.
سنوات لاحقة صرتُ أتزيّن بأحمر شفاه أمي، لم تكن تحبّه ولم تكن تنهرني حينما تتفطّن إليّ ولكنّها كانت تطلب مني برفق ألّا أظهره أمام سجّاني رغباتي الطفولية ولكنّني لم اكن أصغي لها.
وفي المرة الاولى التي اقتنيتُ فيها احمر شفاه بلون الدم والورد، كتبت به اولى كلمات الحب على نوتة الذكريات وخططتٌ به طلاسم على جدار غرفتي، كان أحمر الشفاه قلمي يومها ورفيقي في وحدتي وخزّان أسراري.
أحمر الشفاه برهان تمرّدي ودليل وجودي في عائلة يمدّ فيها الكل أياديهم نحوك ليمحوا الالوان من على شفتيك، علاقتي به أعمق من ان أفسّرها فأنا لا أضعه لأتجمل أضعه لأقول إنّني حيّة وموجودة رغم أسلاكم الشائكة التي زرعوها حول جسدي.
في حزني العميق أضع احمر شفاه وأرقص، وفي وحدتي النازفة ألجأ إليه وفي وجعي اللذيذ وفي نشوتي وفي جنوني، وحينما تتوقف الحياة عن إغرائي يرافقني في حقيبتي لكنّني لا ألثم لونه بل اكتفي أحيانا بتأمله في ثرثرة صامتة.
أحب أحمر الشفاه كثيرا ووحدهن الفتيات الصغيرات يفهمن هذا الحب، بل لعل أعمق الطقوس عندي حينما ازيّن شفاههن بألوان فاقعة تفرحهم وتفرحني وترجعني طفلة صغيرة لا تعترف بالقيود.
من الشفاه إلى سائر الجسد لا تنفك عائلتي تخطّ قواعد تمليها على الفتيات في سن صغيرة قواعد تحتد ما إن ينحت الصبا أمائره على أجسادهن، القمصان التي المفتوحة ممنوعة والتنانير والفساتين.
وإن كفرت بقواعدهم فأنت في مرمى ألسنتهم التي تتحوّل إلى سياط تجلد حسد إن تجاوزت الحدود التي رسموها لك إن فكّرت في ارتداء تنورة أو فستان، يجب ألا يظهر كتفك وألا تكشفي عن مساحة كبيرة من ظهرك وألا ترقوّنك النور وألا تظهر ركبتيك للعيان.
وإن تجاوزت حدودهم، فلباسك غير لائق في نظرهم، كبرتُ على ايقاع هذه الكلمات وعرفت أنه لا يمكن تحديد معناها لأن مساحات الجسد الخاضعة لها متغيرة، وكان هندامي غير لائق دائما وأبدا ولكنّني كنت أشعر بالرضا.
وسنة عشر وألفين قررتُ أن أرتدي حجابا لأسباب بعضها ذاتي وبعضها موضوعي، وظل لباسي غير لائق في نظر عائلتي وفي نظر المحيطين بي ولكل أسبابه وقليلا ما يحترم الآخر رغبتي في أن أكون بتلك الهيئة.
ناظر المعهد الثانوي يرى لباسي غير لائقا لأن منشورا يمنع ارتداء الحجاب وقريبتي المحجّبة منذ سنوات تقاسمه الرأي لأنني ألبس ما يصف وما يشفّ، يرشقونني بالمبررات وأبتسم.
وفي الجامعة يبدو لصديقتي أن لباسي غير لائق حتّى صرت لا ألبس غير الجلابيب والفساتين الطويلة، وحينها لم تتوان صديقات من الضفة الأخرى على همزي بأن لباسي غير لائق من منظور آخر.
ولباسي غير لائق لأنّني ارتدي ألوانا كثيرة تخليت عنها إلى السواد وأضفت البرقع، وظل لباسي غير لائق لأنني أكشف عن يدي وارتديتُ " سفساري" و"خامة" ولم يتغيرّ الوصف وعدت إلى سراويل الجينز التي تركتها ونزعتُ الحجاب وألفت أن أسمع " لباسك غير لائق".
في كل الحالات لباسي غير لائق في رواية أحدهم ولكن المهم أن يليق بي ويليق بقناعاتي والأهم أنّني أشعر بالراحة والرضا والنشوة وأنا أرتدي قطعة ملابس دون وصاية أحد على جسدي.