من المفترض أن تكون هنالك دواعٍ للتفاؤل ولاسترداد الثقة بالنفس من طرف الشعب التونسي وسائر شعوب "الربيع العربي". يأتي ذلك كنتيجة لفشل النموذج التركي في مصر، و وَأدُه في المهد في سوريا وتبعثر أوراقه في ليبيا واستنكاف الجزائر عنه وذوبانه التدريجي في تونس في هذه الآونة، بل وكنتيجة لذوبان النموذج في البلد المصدر له بالذات.
لكن التفاؤل والثقة بالنفس لا يعنيان شيئا إذا لم يكونا مرفوقين ومسنودين بالرغبة في إنجاز العمل الإصلاحي ومن ثمة تولِّي تنفيذ الإصلاح. في هذا السياق إنّ الأهم هو معرفة ما هي النقيصة التي تتصف بها تركيا حتى يتم اختيارها كل مرة لتكون ألعوبة في يد القوى العظمى وتُروَّض لتصبح نموذجا للبلدان العربية، لكنه نموذج سريالي غير قابل للاستنبات، وحتى تتسرب عدوى إتباع النموذج مصحوبة بعدوى فشل النموذج إلى هذه البلدان.
اللافت في هذا الخصوص وقبل معرفة النقيصة – بل وهو مؤشر على وجود النقيصة – هو أنّ تركيا تنمذجت مرة علمانيا على إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية بُعيد الحرب العالمية الأولى ، ومرة إسلاميا وذلك ابتداءً من أواسط السنوات الألفين (انظر مقالا هاما بعنوان " مخاطر نمذجة تركيا علمانيا ثم إسلاميا" للكاتب الكردي آزاد أحمد علي، منشور على موقع "الحوار المتمدن بتاريخ 15-9-2007) وكانت في كل مرة مُذعنة لإرادة صنّاع القرار في الغرب قبل أن يحاكَى نموذجها في مرحلة أولى من طرف العرب ثم يؤول في مرحلة ثانية إلى فشله في داخل هذا البلد وفي البلدان الناسخة لنموذجه.
في طريقنا إلى إزاحة الستار عن النقيصة في المجتمع التركي نلاحظ أنّ النموذج الذي صُنع من تركيا هو من الصنف الذي تعرّفه المقولة الشعبية بأنه المُركّب الذي لا يركب. وهو لا يركب – أي ليس قابلا للاستنساخ – لأنّ مقوماته ليست قادرة على مقاومة القوة الذاتية التي يتمتع بها المجتمعان العربي والإسلامي (التركي في المقام الأول بوصفه مصدر النسخة المزمع تمريرها، ثم العربي بوصفه المرشح لاستنساخ النموذج التركي) والتي تتجسد في استيقاظ المضادات الحيوية للإسلام الصحيح المختزن أي الخالي من المنشطات والمخدرات الإيديولوجية، ولو كانت هذه الأخيرة مقدَّمة على أنها من صلب الإسلام. فهذان المجتمعان، بقدرة قادر، يميّزان جيّدا بين ما هو إسلامي حقا وما هو إسلامي متكلف.
كانت هذه الواجهة الأولى للنقيصة، علما وأنّها تستبطِن مفارقة لا محالة: بقدر ما يتهاون المجتمع العربي الإسلامي في الحفاظ على الوازع الديني في وضع استخدامٍ طبيعي مانحا بذلك الفرصة للشر بأن يتسلل داخل أنسجته، يكون سريع التدارك أمام التحديات الخارجية.
أما الجزء الثاني من العاهة المرَضية التي تركت المجتمع العربي الإسلامي شفافا أو بالأحرى عاريا أمام محاولات التطويع والتنميط والترويض من طرف جهات أجنبية نافذة ومن ثمة تجعل منه مجتمعا قابلا للغزو الخارجي بأصنافه المختلفة فهو ضعف اللغة الوطنية، التركية والعربية في قضية الحال، وعدم تجاوبها في الوقت المناسب مع مجريات الأحداث المهددة لكيان المجتمع (المجتمع النموذج والمجتمع المستنسِخ منه على حدٍّ سواء).
من هذا المنظور نعاين أنّ لا لغة البلد النموذج ولا لغة البلدان المبرمَجة على استيراد النموذج توجد في أسعد حالاتها. كيف ذلك؟
إنّ اللغة التركية قد مرت بمرحلة التتريك على يد كمال أتاتورك وفقدت تبعا للتحويل الجذري الذي لحق مقومات المناعة والسلامة التي كانت تحمي المجتمع بوصفه كيانا ذا هوية عثمانية عربية إسلامية من كل غزو هوياتي .ومن تبعات هذا الغزو في مجال القابلية للتماهي مع أشكال الاستعمار المختلفة، ثقافية كانت أم إيديولوجية، مثلما هو الحال بخصوص قضية الحال، أم سياسية مباشرة (مثلما هو الشأن بالعراق لكن في علاقة المجتمع العراقي باللغة العربية هذه المرة ) أم عسكرية مباشرة مثلما حصل في ليبيا، أو عسكرية غير مباشرة (ما يسمى بالحروب الناعمة) مثلما جُرّب ولم يفلح في سوريا.
كما أنّ اللغة العربية تعاني من مشكلات، مع أنها مغايرة شكلا لتلك التي تعاني منها اللغة التركية لكنها تتماهى معها من حيث المضمون: كلتا اللغتين انفصلت عن روحها، ألا وهو الإسلام، وبقيت جثة هامدة. وهل الجثة بقادرة على مصارعة الدابة (الامبريالية) المفترسة؟
ما نخلص إليه هو حالة العزلة التي يوجد فيها كلٌّ من الإسلام واللغة (إنْ العربية أم التركية أم الكردية أم الأمازيغية أم الأردية أم الفارسية أم غيرها) في البلاد العربية الإسلامية عموما. ومن المضحكات المبكيات أنّ كُلاًّ من هذين المكونَين الاثنين الأهم في مجال الهوية بقي يتصرف على حِدة أي بمعزل عن الطرف الآخر، دون راعٍ ودون رقيب يحرص على جمع شتاتهما عملا بالمعنى الأصلي للآية الكريمة "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف:2) أي عملاً بضرورة تلازم العاملَين القرآني/الديني من جهة و اللغوي (مهما كانت اللغة) من جهة أخرى بوَصف هذا التلازم شرطا لتحقيق فهم النص عبر الواقع وفهم الواقع عبر النص، وبالتالي شرطا لتحقيق التطبيق "العقلاني" ("لعلكم تعقلون- الآية) للإسلام وذلك بالاتساق مع الفهم.
في ضوء هذا يحق التساؤل إن لم تكن مشكلة الهوية، في تركيا و خاصة في الوطن العربي، رهنًا بمزاوجة المُكوّنين الاثنين لها، وإن لم يكن أنجع سبيل هو السبيل المعرفي عوضا عن ترك موضوع الهوية هو أيضا فريسة، لا في متناول القوى الخارجية مباشرة بل الأدهى والأمَرّ في متناول المفترس المحلي، ألا وهو جسم السياسة والسياسيين، والذي كشر عن أنيابه في السنوات الأخيرة فبرز بامتياز وبكل المقاييس جزءا من المشكلة بينما هو يعرض خدماته، بكل فخر واعتزاز، بل بكل غرور واعتداد، على أنه الحل بعينه. فليرحم هذا الجسمُ الفاني مَن في الأرض يرحمه من في السماء.