أطلقت النقابة الوطنية للصحفيين التونسين مؤخرا مشروعا جريئا وهامّا في إطار السعي لتكريس مفهوم التعديل الذاتي داخل الجسم الصحفي الذي أربكته حالة الانفتاح التاريخي المفاجئ في علاقة بالحريات الأساسيّة بعيد الثورة.
مساعي نقابة الصحفيين تجسّدت خاصة في بعث مرصد لأخلاقيات المهنة في الصحافة المكتوبة الورقية والالكترونية وقد توّج هذا الجهد باصدار تقرير أوّل أكّد مسلّمة بديهية وهي أنّ العمل الصحفي لا يخلو من فخاخ وهامش خطإ مهما كانت عراقة تجربة الصحفيين ودربتهم المهنية وذلك في ظلّ الفراغ الهيكلي المؤسّساتي على شاكلة الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري(الهايكا).
هذه المطبّات والهنات التي إعترت التعاطي الإعلامي لاسيما حينما يتعلّق الأمر بمعالجة الظاهرة الارهابية بمدّها وجزرها فتحت الباب على مصراعيه لنقاشات جديّة ومستفيضة-ولو بشكل متأخر نسبيّا- بخصوص بحث آليات وحلول ناجعة للتقليل من الإخلالات المهنيّة التي بدا من الواضح في الفترة الأخيرة أنّ هناك من يروم استثمارها لجعلها مسوّغا وذريعة للحدّ من هامش الحريّة الصحفيّة من قبل أطراف سياسيّة أو مؤسساتيّة في أجهزة دولة مازالت تتلمّس خطواتها بشيء من التعثّر لقطع ما تبقى من "شعرة معاوية" مع إرث الاستبداد وما ينطوي عليه من سعي محموم لتطويع السلطة الرابعة وإفراغها من كنه وظيفتها المواطنية.
ولا غرابة إن قلنا بأنّ الطريق صوب تحقيق التعديل الذاتي سيكون مزروعا بأشواك و عقبات كأداء لعلّ أبرزها حالة الفقر العلائقي التي تكتنف الوسط الإعلامي.
من المهم هنا التأكيد على أنّ هذه الأزمة ليست وليدة مناخات ما بعد الثورة فهي نتاج لترسبّات ثقافيّة ومهنيّة ومجتمعيّة زرعت عقلية قاصرة اصطبغت بها علاقة الصحفيين بين بعضهم البعض – بمن في ذلك رؤساء التحرير- وكرّست ممارسة تقوم على اعتبار أنّ الآخر هو الجحيم بالمنظور السارتري للعبارة.
قليلة هي النقاشات ومحاولات التفكير بتؤدة بين الصحفيين أنفسهم في علاقة بمسألة النقد الذاتي المشترك والتقييم الموضوعي من أجل الارتقاء بالأداء الإعلامي للمؤسّسات المتنافسة ولتطوير الأداء المهني صلب بلاط صاحبة الجلالة.
بيد أنّ هذا الوضع المأزوم هو بلا شكّ قابل للإصلاح شريطة التحلّي بقيم التواضع والتضامن، فضلا عن توفر الإرادة المناهضة لكلّ منزع يقوم على الهروب إلى الأمام و التنصّل من مسؤولية جسيمة أوالجزم دائما بأنّ كلّ نقد هو مذمّة تأتي من ناقص تجاه آخر كامل وبعيدا أيضا عن منطق المغالبة في التبخيس وربّما عن غير وعي الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة والمهنية التي لا يشقّ لها غبار.
إنّ الحديث عن إرادة لتجسيد مفهوم التعديل الذاتي لا يمكن قطّ أن يستقيم دون الأخذ بعين الإعتبار ضرورة معالجة أزمة الفقر العلائقي بين الصحفيين بمختلف مقارباتهم و خلفياتهم الفكرية وأجيالهم فما يجمع لا محالة هو أكثر ممّا يفرّق في حال ما تمّ التمسّك بناصية أخلاقيات المهنة وقواعدها الصارمة التي يمكن أن تتعزّز من خلال الاتفاق على مدوّنة سلوك تحريريّة خاصّة بتغطية الأحداث الارهابية هي قيد الدرس والنقاش الذي يحتاج لمشاركة واسعة من السواد الأعظم من مكونات الطيف الإعلامي.