يسرى الشيخاوي-
"سعد سعد وسعد سعد بنتي خير من ألف ولد"، يصدح صوت ناعم من خلف مسرح الحمامات وتتناثر كلمات التهويدة عذبة وديعة قبل أن تطل لبنان نعمان بفستانها الأبيض على المسرح.
وانت تتبع خطواتها وتلاحق صدى صوتها المنبعث دون موسيقى يخيل إليك أنّها عروس قادمة من عمق البحر الذي يوشّح مسرح الحمامات، وكلما تسللت حروف التهويدة من حنجرتها يلفّ النوم صوتها وتغرق الكلمات في النعومة.
وكلما حفّضت لبنى نعمان صوتها حتى تكاد لا تسمع أنفاسها تتراءى لك الطفلة الصغيرة مستسلمة للنوم على إيقاع كلمات نابعة من قلب أم، ولما يسكن صوت لبنى نعمان وتتحدّث تعبيرات وجهها مع انتهاء التهويدة تقول الآلات الموسيقية قولها وتنطلق الرحلة في عوالم عرض "ولادة".
وبصوتها البسيط في عمق روت حكايات نساء رقصن على رماد الحدود والقيود وثرن على على أنفسهن وعلى القبلية وعلى عادات بالية ونصرن ذواتهن بكلمات تمتد من باطن الأرض إلى أعالي السماء.
لكل من ذاقوا الوجع واستنطقوا على حدوده الامل غنت لبنى نعمان، غنّت لبيروت الجريحة و للحرّاقة الذين ركبوا أمواج الموت بحثا عن جنّة ضائعة وللنساء المعنّفات وللكادحات المنسيات وللعاشقات والباحثات عن سبل الحرية دائما وأبدا.
لرفيقتها لينا بن مهني غنت، وكانت على الركح حمامات بيضاء تلعن الموت كل حين وتعلي ألوية الحياة، حلّقت على الركح بقدميها الحافيتين بعد أن تخففت من حذائها ونثرت كلماتها في وده الغياب.
على الركح تتهادى الأفكار الحرة والكلمات الحرة والقضايا العادلة وترقص الحياة منتشية وتخلق لبنى نعمان والعازفين من الحزن تعبيرات نشوة وفرح ويخترق صوتها الوجع ويوقف نزيف أرواح أضناها الفراق.
"كب الفولارة" و"راني مضام" و"غريب وجالي"، "الوشام" و"توبة"، وغيرها من الأغاني مسرحتها على الركح على ايقاع عزف مربك تماهت فيه نغمات العود والقصبة والبيانو والقيتار والبندير.
وفي سهريات صيف الحمامات كان الجمهور على موعد مع رحلة خطّت المشاعر المتناقضة معالمها، ورسمت في الأثير وجوها باشرة وأخرى باكية وبعض منها لا يمكن تبيان تعابيرها لشدّة التباس الفرح فيها بالترح.
أغان من عمق التراث التونسي، وأخرى خاصة بها جالت فيها لبنى نعمان بصوتها في معاني الكلمة وعمق الاحساس الذي يتولّد من الرغبة في تجاوز الألم وفي معانقة الفرح رغم كل شيء، أغان لم تنس أن تهدي إحداها إلى الراحل لطفي جرمانة.
هي ليست مجرّد أغان مصحوبة بإيقاع موسيقي، هي صرخات ألم وانعتاق ومناجاة للحياة، هي سفر في الذاكرة الشفوية التي اختزنتها أصوات نساء صارت تعبيرات للوجع والثورة والتمرّد وغوص في حاضر يوشحه الحزن ولكن الرغبة في الفرح مسلّحة بالمقاومة والإصرار.
كحمامة زاجلة تنقل لبنى نعمان بصوتها رسائل نساء من أزمنة متعدّدة، نساء احببن وتألمن وانتشين بوجع الفراق ورقصن على إيقاع البكاء، غنت لهن في عيدهن وخطت معاني أخرى للرقص على الجراح المفتوحة.
ولأن الولادة هي هبة الحياة لكائن نما داخلك وامتد فيك، فيه بعض من روحك ومن دمك ومن وجودك، فإن لبنى نعمان نهلت من تفاصيل هذا الفعل المقدّس في عرضها ليكن في كل مرة متجدّدا من جنسه روحها ورغبتها في تقديم عرض يحاكي حياتها التي تأبى أن تكون أسيرة للروتين والتكرار، وهي نفس الرؤية التي يشاركها معها رفيق دربها، حبيبها مهدي شقرون، وفق قولها.
عرض أول في قاعة المبدعين الشبان في مدينة الثقافة، وهبته لبنى نعمان الحياة ولكنه ولد ببعض النقائص التي وعدت بتداركه في عروض لاحقة، ليكون عرض ثان في قمسرح الجهات ضمن أيام قرطاج الموسيقية، أوفت فيه بما وعدت ويلحقه هذا عرض ثالث على مسرح الحمامات أكثر عمق وتركيزا على التفاصيل.
إخراج متناغم مع معان العرض وازياء من رحمه ورؤية موسيقية منسجمة مع الكلمات، رقص وغناء ومسرح وموسيقى جسّدت عبرهم لبنى نعمان مفارقات الحياة في لحظات ولادة يتماهى فيها الفرح والألم.
والعرض الذي يولد في كل مرة في هيئة جديدة مازال يحمل في طياته أغان كثيرة قد تغنيها لبنى نعمان في عروض قادمة، أغان عن المرأة وعن المحبة وعن الأرض والحياة كانت وليدة أشهر من البحث والعمل الموسيقي.
وان اعتلت "نغم" ابنة لبنى نعمان ومهدي شقرون الركح عفويا في عرض أيام قرطاج الموسيقية، فإنها هذه المرة كان حضورها مبرمج إذ رافقت والديها على المسرح في أغنية "ربيع منور" وبثت ضحكاتها على المسرح وتماهت خطواتها على الركح مع خطوات والدتها ومع نغمات العود إذ داعب والدها أوتاره، لتملأ أنغام المحبة كل الفراغات.