24
يسرى الشيخاوي-
هم لا ينظمون الكلمات ويلقونها بنبرات موشحة بالإيقاعات، هم يدرون الدم ويخافون البسمات وينفثون نفحات الغزل، هم يتنفسون الحروف ويستدلون بها على سراط القول المقدّس، هم شعراء دوز الساحرة.
كلماتهم ليس ككل الكلمات، كلمات معمّدة بعمق الصحراء وحلاوة ثمار النخيل، حكاياهم صادقة تجد سبيلها إلى القلوب دون إيذان، حكايا غازلت المخرج محمد صالح العرقي فأذعن لسحر حروفها وهام على وجهه يتبع خطى الحرف في ثنايا الصحراء.
عناق بين الشعر والسينما يمتد طيلة ثمانية سنوات من البحث والتمحيص في موروث لامادي يعبق برائحة الماضي الجميل، موروث حي أبدا لا يعترف بالموت نسج منه وثائقي "على خطاوي الحرف" تفاصيله المغرية بالسماع والإبصار.
سيناريو يجمع بين الحسي والوجودي والإنساني اوجدته قريحة مروان المدب الذي يوشح الحروف بصدى صوت شعراء رحلت أجسادهم وظلت أرواحهم تراقص كلمات قصائدهم العصية على النسيان، وبين امتدادات الشعر الشعبي تتجلّى روح الراحل عدنان المدّب الذي سافر في ثنايا التجربة التوثيقية في بدايتها.
وعلى إيقاع موسيقى الفنان الشعبي بلقاسم بوقنّى وأنغام ناي ترشح شجنا وحنينا، توغل بك كاميرا محمد صالح العرقي في امتداد الحرف الذي يتجاوز صداه حدود الصحراء وشواهق النخيل وتجول بك في ثنايا حكايات تشابك فيها الإنساني بالفني.
حكايات عن صرخات الأرواح في وجه الوجع والبين والموت في تمظهراته المختلفة، حكايات على خطى ثلاثة شعراء نظموا الكلمات لعقود فحفظتها عروض النخيل وذرات الرمل ورحلت أجسادهم عن هذه الأرض وظلوا أحياء في قضائدهم المدوّية.
الشعراء علي لسود المرزوقي وسالم بن عمران والعيدي بن بلغيث، خطوّا بحروفهم المقدّسة معالم فيلم وثائقي يحتفي بالشعر الشعبي وبالكلمة العفوية الصادقة، كلمة تسكن نبضات القلوب والأنفاس والضحكات والشهقات عند البكاء وتمتد جيلا وراء جيل.
"على خطاوي الحرف" تجول بك كاميرا المخرج بين "العكاظية" و"الصحراء" في مراحة بين التجارب الذاتية والموضوعية في الشعر الشعبي لتظلّ "دوز" في كل مرة سيّدة المكان، و"العكاظية" تسمية ومن مهرجان دوز للشعر الشعبي، وهي نسبة إلى سوق عكاظ حيث الكلمة أداة للمبارزة وعملة للتجارة.
ومهرجان دوز للشعر الشعبي سراط للقول المقدّس لا يسير عليها إلّا كل من اعتنق الكلمة الصادقة دينا، مهرجان حمال معان ورسائل، تفاصيله مفعمة بتعبيرات استطيقية تختزل أفكارا ورؤى، تعبيرات تنبع من روح شعراء تنكر كلماتهم الحدود والقيود وتتسلل دون إيذان إلى قلوب المستمعين قيستبطنونها ويخلقون منها نشودة سرمدية.
بين صوت الشعراء على ركح "العكاظية" وصدى حكايا عن شعراء أبقى من الموت، حكايا ابن ورث موهبة الشعر عن والده، هو أيوب لسود المرزوقي الذي خانته الكلمات ذات موت ولم يغادر رثاء والده علي لسود المرزوقي حلقه.
من حكايا الابن إلى حكايا الشاعر سالم بن عمران الذي يقص رواية مدادها الصداقة بين شاعرين التقيا عند الحرف والقافية، تتعدّد السبل وتتناثر الكلمات لتخلق في كل مرة معنى جديدا يتجاوز "دوز" المكان الواحد الذي عانقت كاميرا المخرج تفاصيله.
تفاصيل بعضها مبك وبعضها مضحك وبعضها الآخر تتلبّس فيه مشاعرك فتقف في منتصف الطريق بين الدمعة والبسمة، تفاصيل نابعة من رحم " المرازيق" موشّحة بصفات الصحراء متمرّدة على كل تصنيف، تفاصيل تأسرك فتلهيك عن بعض اللقطات المرتبكة والمسقطة احيانا.
وبين عفوية ملحّن عصامي عانق صوته الشفق والصحراء، وشاعر يرثى نفسه قبل أن تحل أجله، وآخر ينتشي بفتح الأبواب في وجه بعد ان علا صوت غلقها في وجهه، تتبدّى ملامح وثائقي يراوح بين الفني والإنساني.
وعلى صدى صوت شاعر حي يردّد " أنا متت يجعلها البراكة فيكم مانيش تنوصيكم قولوا عليّ كيف ما يواتيكم" وصدى صوت الحضور يردّد "الله يرحمك"، يعرض المخرج بعضا من حيوات شعراء هاموا بالحرف وهام بهم فخلّد ذكراهم، بعيدا عن تفرعات الشعر الشعبي وقواعد نظمه وإن لامس الحديث في الفليم "الصراع" بين تيار كلاسيكي وآخر تجديدي.
غوص في التجارب الشعرية لعلي لسود المرزوقي وسالم بن عمران والعيدي بن بلغيث، ومرور على تجارب البشير عبد العظيم والشاعر بوبكر بن ناجي نجل علي بن ناجي الذي حاز جائزة "شاعر الصحراء" حينما عانق ركح "العكاظية" بعد بين.
"وطلعتهن درجاتك.. بالسيف غصبا عنك.. لي وقفت عل ملقاتك.. يا صاحبي كيفنّك.. ماهي الخطاوي جاتك.. وردّيتها ب لاكنّك.. ما حرهنّ كلماتك.. يوم الخطاوي جنّك.. طوّل الله حياتك
ولقيتني فوق منّك"، هي كلمات شاعر عاشق أوجعه الصد فتسلّح بالحرف وانتصر.
وفي مدينة دوز للأنثى حظّ الذكر من الشعر، فالنساء هناك تنظمن الكلمات وتصدحن بأصواتهن في المجالس ولكن حضورهن في وثائقي "على خطاوي الحرف" لا يوائم تجربتهن العشرية إذ اقتصر المخرج على ظهور الشاعرة عائشة الجباهي دون غوص في مسيرتها، ما قد يبدو للبعض انحيازا للشعراء دون الشاعرات.
وأنت تلاحق كلمات الشعراء المعتقة برمال صحراء دوز ومشروب نخلها، تطالعك التجربة الإعلامية لأماني بولعراس التي اقتفت خطاوي الحرف وكانت شاهدة على انعتاقه من حناجر شعراء لا يشبهون إلا البيئة التي نشأوا فيها، صحراء ممتدّة تسرّ الناظرين ساعة الصفو وتملأ عيونهم رملا ساعة الغضب.
وفي اللجوء إلى مقتطفات إذاعية في الوثائقي تتجلّى أهمية توثيق الموروث اللامادي الذي آلى المخرج محمّد صالح العرقي على نفسه أن يتتبّع خطاه حيثما اخذته السبل في دوز الساحرة فكان فيلم "على خطاوي الحرف" تجربة فنيّة وإنسانية توثّق لتاريخ وفلسفة نابعة من عمق الصحراء.