عرض يوفا لنصر الدين شبلي: أن تنبت للموسيقى الشعبية أجنحة

يسرى الشيخاوي-
 
حينما تلامس النغمات الشعبية البدوية أوتار الذكريات تعبر بك إلى أيّام ولّت، أيّام تتّقد فيها نيران " النجمة" وتعلو فيها أصوات النساء تزيّن "المحفل" وليالي الفرح المتتاليات، هي ليست مجرّد نغمات تتمايل على وقعها الأجساد وإنّما هي  ذكريات معتّقة.
 
ضربات متعاقبة على الطبل وكأن به ينادي في الجمهور الحاضر في مسرح الجهات بمدينة الثقافة أن أطلقوا العنان لأجسادكم لترقص على وقع موسيقى أصلها ثابت في الهوية التونسية وفرعها يعانق  أنماطا موسيقية مختلفة.
 
هو عرض يوفا لنصر الدين شبلي، عرض لم يحد فيه عن فلسفته الموسيقية التي تقوم على جعل الإيقاع قطبا للمشهدية ووتدا لفرجة ترسم الأصوات ملامحها المغرية، عرض بإخراج بسيط جدّا يستمدّ عمقه من ضربات الطبل والهانغ درام إذا ما لامستها أنامل عازف عاشق للإيقاعات ومن أنفاس المزود إذا ما بث فيها عازف هواجسه ومن آلات أخرى بعضها تقليدي وبعضها عصري.
 
السفر في ثنايا العمل الفني يوفا يمتد لأكثر من الساعة ونصف، ولكن النشوة التي بثّها في زوايا مسرح الجهات بمدينة الثقافة لم تستغرق إلا خمس وأربعين دقيقة التزاما بشروط المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية.
 
 نغمات تقليدية ممزوجة  بموسيقى الاندرغراود، في تماه ساحر بين الماضي والحاضر لتتخطّى الموسيقى كل الحدود وتكون عنوانا للتواصل بين ضفاف العالم المتناقضة، فعلى الركح تسمع الموسيقى الالكترونية وموسيقى شمال افريقيا والموسيقى البدوية القادمة من العمق التونسي، موسيقات تتقاطع على قاعدة الانتشاء دون أن تسقط هويّتها.
 
وإذا أنغام المزود عانقت الإيقاعات تعود بك الذاكرة إلى أزمنة الزندالي والربوخ بما هو غناء "الزوافرية" وهي تدريج للكلمة الفرنسية "les ouvriers”، ولكن هذه المرة لن يكون الغناء عن السجون والفراق وإنّما في مدح الأقطاب والأولياء الصالحين.
 
هي توليفة يشوبها جنون فنّي نابع من فكرة نسجت من خيوط قوامها الاختلاف لتجمع على قاعدتها الزندالي وبعضا من الحضرة والاندرغراوند دون أن تفقد أي منها خصوصيتها أو تتوه وسط تزاحم الايقاعات والأنغام.
 
 وصلات وأغان مترابطة، كان فيها العرض فسحة لتعداد محاسن أولياء الله الصالحين وبين "المدحة" و"المدحة" يسكت الكلام ولا تسكت الموسيقى التي تأخذ في كل فسحة نسققا تصاعديا يراود الحضور ويغويهم بالرقص فيطلقون العنان لأجسادهم.
 
وفي قاعة العرض، تتمايل الأجساد على وقع موسيقى نابعة من بحث عميق جعل من يوفا مشروعا موسيقيا متفرّدا على مستوى التصوّر والتوزيع، ورقص الجمهور كل بطريقته فمنهم من اتبع الخطوات التونسية في الرقص ومنهم من هز برأسه محاكيا ايقاعات الاندرغراوند ومنهم من هز يديه متماهيا مع البصمة الصوفية في العرض.
 
إيقاعات حماسية متحرّرة من القيود والأغلال، تتسلل منها نفحات صوفية روحية، ربّما هي نتاج تجارب سابقة في النوبة والحضرة ولكنّها هذه المرة مغايرة، هي "تخميرة" على مذهب الزندالي والاندرغراوند، تخميرة لا تملك إلا أن ترقص انسجاما معها حتّى دون أن تدرس حركاتك.
 
 دالة ياعدالة"’، "سيدي محرز أه يا رجالة"، "نعطيك برية"، "نورو سباني"، " جاني في منامي"، "هيا يا بابا"، كلمات تمدح الأولياء الصالحين تتعانق مع  موسيقى تشبه عشق نصر الدين شبلي فتسري على الركح حالة فني مدادها الحلم والتحرر من كل سائد ومألوف وتنبت للموسيقى الشعبية بكل تلويناتها أجنحة تحلّق بها حينا إلى الماضي وأحيانا إلى المستقبل.
 
وأنت ترهف سمعك إلى لألحان  موزعة بطريقة تمتزج فيها إيقاعات البندير والطبلة  والمزود والقيتار والدرامز والباص، وتجول بعينيك بين الاجساد الراقصة على وقع " المزود" لا تملك إلا أن تستلم لإغراءات الإيقاعات الممزوجة بصدى الزغاريد.
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.