عرض فيلم ” غزالة”في سجن المسعدين: وإن كنتم في قلب الموت أحبوا الحياة ما استطعتم إليها سبيلا

يسرى الشيخاوي-
لا يتيح لنا القدر فرصا كثيرة لنعيش وضعيات تتداخل فيها  الأحاسيس وتعمها حالة من الفوضى التي لا يمكن ان تسيطر عليها لا بدمعة ولا ابتسامة، حالة نفسية وذهنية قد تجعل تراوح بين البكاء والضحك دون قدرة على مجاراة الوضع وبينهما يكاد قلبك يقفز من مكانه وأنت تبحث عن منفذ للنور والهواء في قاعة عرض فيلم " غزالة" للمخرجة هاجر النفزي في السجن المدني بالمسعدين.
 
يفتح لك باب السجن على مصراعيه، تملأ رئتيك بالهواء، تختزنه وتسير نحو قاعة العرض، حيث سبقنا السجناء والسجينات وتبوّأوا اماكنهم في قاعة العرضين  دون اختلاط، رجال سلبسون زيا أخضر نساء بجلابيب وأغطية رأس، كانت ملامحهم توحي بالتوق إلى رؤية الفيلم، ملامح لا يمكن أن تميّز فيها بين الرغبة في هذا النشاط الثقافي الترفيهي والرهبة من مضي موعده بسرعة.
 
مساجين، تحدّهم الحيطان من كل صوب التقت أعينهم بطبيعة تمتد بين الأرض والسماء في أوّل مشهد من فيلم " غزالة" الذي يُعرض في إطار أيام قرطاج السينمائية للسجون التي تنظمها الإدارة العامة للسجون والإصلاح والمنظّمة العالمية لمناهضة التعذيب وإدارة أيام قرطاج السينمائية.
 
عانقوا الحرّية ولو لحين..
السجينات والسجناء وجدوا في أيام قرطاج السينمائية للسجون متنفسا وفسحة لكسر روتين ورتابة السجن، صادفوا وجوها جديدة وبادلوها النظرات والابتسامات، وكمى من رسالة مررتها الأعين وعجزت الألسن عن ترجمتها، هي المرّة الأولى التي يجتمع فيها المساجين نساء ورجالا أمام شاشة الفيلم، وليس فيلم، هو وثائقي لشخص يدين بدين الحرّية والحياة، "غزالة" شخصية لا غنى لها عن حضن الطبيعة.
 
"سيدي عمر" تلك المنطقة المهمشة والمنسية من الدولة ولكن الطبيعة أعطتها من الجمال ما يسرّ قلوب الساكنين فيها، ذلك المدى من الحرية الذي يراوح بين الجبال والأودية، قطعة من الجنّة بأرضيتها المخضرة وقلوب أهلها الطيّبين تعطي معنى آخر للحياة.
 
المشهد الاوّل من الفيلم، تلك الشجرة وارفة الظل، واخضرارها الذي يبعث في الروح الانشراح، وصوت "غزالة" وهو يتغنّى بمحبوبته " على الزين اللي كواني بالقامة والهيبة..على محبوبي الغالي زينه يتكيل بالويبة"، تفاصيل كفيلة بأن تحرّر المساجين من قيد الزمان والمكان وتدعوهم لمعانقة الحرية ولو لحين.
 
وإن كنتم في قلب الموت أحبوا الحياة ما استطعتم إليها سبيلا 
وفيلم غزالة وثائقي روائي تدور أحداثه في منطقة من الهامش، مقبرة تؤوي الموتى وعلى مقربة من مقام ولي صالح، مكان تعيش فيه أربع عائلات من بينها المولدي الحناشي بطل الفيلم،  نحن نزور المقابر والأضرحة علنا نتذكّر أن للحياة نهاية اسمها الموت، ولا أحد منا يعلم إن كانت فعلا نهاية أم بداية أخرى، بمعنى أن المقبرة في المخيال الجمعي تحمل كل معاني الموت، ولكنّ باستثناء الفقر والخصاصة وصورة القبور، لا شيء يوحي بالموت في "سيدي عمر".
 
في "سيدي عمر" يعيش أناس فقراء بالمعنى الظاهر للكلمة ولكنّهم أغنياء بباسطتهم ونقاء سجيّتهم، أغنياء بروح التضامن فيما بينهم، يظهرون في الفيلم الذي وثّق يوميات عيش " غزالة" بينهم، تلك الشخصية التي تصفها مخرجة الفيلم هاجر النفزي بالغامضة والغريبة، تلك الشخصية التي فرضت على محمّد العيدودي إجراء تغييرات على السيناريو لأنها ليست شخصية بسيطة بل مركّبة ومفتوحة على عدّة واجهات.
 
فيلم "غزالة"، يجسّد تجربة إنسان لم يثنه الواقع بما يحمله من مرارة عن حبّ الحياة ما استطاع إليه سبيلا، عاش في محاذيا للموت ولكنه كان حيّا وحرا، ربّما هي رسلة إلى الماجين كي لا يقتنوا من الحياة، رسالة تدعو إلى حب الحياة حتى في حضن الموت.
 
المولدي الحناشي  ..للتصوف وجوه كثيرة 
كان المساجين نساء ورجالا منسجمين مع فيلم " غزالة" الذي عرض لأول مرّة امامهم، تفاعلوا مع غناء المولدي الحنّاشي  أو " غزالة" كما يناديه المحيطين به، هي تسمية نابعة عن رشاقته وكثرة حركته وحبّه للطبيعة، كما تعرّفة مخرجة الفيلم هاجر النفزي.
 
"غزالة"، رجل بسيط لم يرتدّ المدارس في صغرهن ولكه طموح وهو ما جعله يتلقى دروسا في "محو الأمّية"، غزالة يعيش وحيدا لأن زوجته ذهبت في حال سبيلا، كونه يعيش وحيدا هو مجرّد توصيف سطحي لوضعية ذلك أنه شخص اجتماعي ويحظى بحب المحيطين به، كما أنّه يهيم بـ" للا حفصة" ابنة الولي الصالح " سيدي عمر"، هي محبوبته التي يتغنّى بها ويراها في الحلم يتبادلان النظرات وتخبره " أنا معك على اليمين وعلى اليسار" ثمّ تختفي.
 
للمولدي الحنّاشي طقوسه في الحياة، تراه مرتديا تلك الملابس البضاء في إشارة للطهر والنقاء فـ"يتخمّر"" على وقع مدائح سيدي عمر في مقامه حيث يتطاير رذاذ البخور وتعلو الزغاريد، وتراه مرتديا بدلة رقصة بزينتها من حلي ومساحيق تجميل وطلاء أظافر، ويرقص معليا راية الفرح.
 
"غزالة" شخصية بسيطة تعيش في منطقة مهمشة لكنها متحرّرة متصالحة مع ذاتها، لا تحمل عقدا بل جسد متمرّدا على السائد والمألوف تواقا للحرية محبّا للحياة.
 
 المخرجة نجحت في  توثيق المشاعر 
ربّما يكون من السهل على المخرج أن يوثّق صورا جميلة لمكان ما لكن من الصعب أن يوثّق مشاعر الأشخاص كما هي دون مؤثرات خارجية، ودون إفراط في إبرازها، في فيلم " غزالة" نجحت هاجر اللافي في توثيق المشاعر، تلك الكتلة الهلامية التي لا يمكن حصرها، فنقلت دفء العلاقات في سيدي عمر، دفء يتحدّى برد القبور في ليالي الشتاء.
 
والمخرجة الشابة، نقلت ذلك  الفضول في أعين الأطفال اللذين ينصتون لحكايا المولدي الحناشي عن سيدي عمر، وقرعه على الطبل وإصداحه بمدائح الولي الصالح، ذلك الزخم من الفرح الذي يتسلل من بين ثنايا حفل العرس في مقام الولي الصالح، الأهازيج  ورنين الزكرة، وبساطة الأشخاص الذين لا يعرف التصنّع طريقا إليهم.
 
وإن كان "غزالة" الشخصية الرئيسية في الفيلم  فإنه كان عينا على التهميش الذي  تعانيه المنطقة رغم ثرائا الطبيعي والإنساني، وثّقت هاجر غياب مرافق حياتية في المنطقة، وغياب وسيلة نقل تقل الأطفال من مدارسهم إلى "سيدي عمر"، بل ووثّقت غياب الدولة".
 
"غزالة" عنوان فرح 
فريق فيلم " غزالة" لم يكتفوا بعرض الفيلم في سجن المسعدين بل أرفقوه بعرض راقص للمولدي الحنّاشي الذي ارتدى لباسه الأبيض فبدا كحمامة بيضاء، مستسلمة لنداء الموسيقى، رقص وسط تصفيق المساجين الذين ارتدوا ابتسامات قد تكون وقتية وتنتهي ما إن ينتهي العرض.
 
"غزالة" لم يكتف بالرقض وإنما غنّى الاغنية التي تغنى فيها بمحبوته للا حفصة " عالزين اللي كواني"، و"ريم الفيالة" و"صغير وريقو شاح" بمشاركة السجناء والسجينات ووسط تصفيق الحاضرين من مسؤولين في السجن وصحفيين.
 
والمولدي الحنّاشي لم يكن مجرّد بطل في فيلم وثائقي، المولدي الحنّاشي عنوان فرح وفلسفة حياة تدعو إلى التسلّح بالبسمة والأمل في مواجهة أدران الواقع .

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.