يسرى الشيخاوي-


أرواح أزهقت وجسور شطرت إلى نصفين وطرقات قُطعت وحقول أتلفت، ودموع سكبت على نعش البنية التحتية في عدد من ولايات الجمهورية، إثر الفيضانات الأخيرة التي شهدتها عدّة مناطق من الجمهوريّة التونسية.
 
 الطبيعة مثلنا متقلبة، لا يمكنك أن تتكهن ساعات صحوها أو غضبها، وحنق الطبيعة قاس إلى حد أن البنية التحتية تعجز عن الصمود أمام الفيضانات الناجمة عن تساقط كميات هامة من الأمطار، وما يزيد الطين بلة أن الارتجال يغلب على سياسة الدولة في التعامل مع الفيضانات.
 
 وأنا أشاهد صور الأودية التي غصت بقطرات الامطار ففاضت المياه على جنباتها حتى غمرت البيوت والمحلات التجارية وأغرقت المنازل، ماعدت أفكر في عبثية الوضع وسرياليته غيرأني عدت بالذاكرة إلى أزمنة خلت.
 
 وأنا أطالع أنباء عن توقف الدروس في عدد من المناطق بولاية الكاف من بينها الجريصة تلك القرية التي نشأتُ فيها وتنهمر فيها الامطار بسخاء، تذكّرت حذائي البلاستيكي الذي ودعته مع ختم التعليم الابتدائي لدواع "برستيجية" بحتة، وتذكرت أيضا أنني عدت من الموت.
 
 كان منزلنا يقع في حي على مقربة من واد يقطع وسط المدينة، كان صدى سيلان مياهه يبلغنا إذا انهمرت كميات هامة من الأمطار بشكل مسترسل، تردّد في أذني صوت جدّي وهو يحذّرني وأختيّ من الاقتراب من الوادي عند ارتفاع منسوب المياه فيه، مات جدّي وبعنا منزلنا المتاخم للوادي ولا أدري إن ظل الوادي على حاله.
 
 كنت عنيدة، وعاجزة عن كبت فضولي منذ كنت طفلة، لكنني لم أكن بتلك البديهة والفطنة التي تجعلني أتوقع أن نتائج الهرولة وراء حب الإطلاع ليست دائما محمودة العواقب وإن كانت تحمل في جعبتها دروسا كثيرة.
 
 مازلت أذكر ذلك اليوم جيدا، يوم أحد من شهر ديسمبر سنة 2000. كانت السماء مكفهرة ودموعها لا تكف عن التهاطل، ولم ينفك جدّي يحذرنا من الاقتراب من الوادي وإذ هو سكت نابته أمي وجدّتي في "موشّح" التحذير.
 
 يومها استبدت بي فكرة أن أشاهد سير مياه الأمطار في الوادي، لم يكن الأمر في متناولي فليس من السهل ان أغافل "الحرّاس" في منزلنا، بعض التفاصيل تاهت بين السنين ولكنّني أتذكر أنني تعللت بالذهاب إلى منزل قريتنا المجاور لمنزلنا للعب مع ابنتها وكسر رتابة اليوم الممطر، وافقت امي وهي توصيني ان أسرع الخطى..
 
لم يخطر ببال امي أنني سأتوجه إلى الوادي لأمتع عيني بمنظر سيلان الماء، كان أقصى ما اتمناه رؤية الوادي لحظة امتلائه بالماء لكنني لم أكن أعلم أن هذه الأمنية كادت تكلفني حياتي.
 
 على طرفي الوادي سور من الاسمنت يحيط بالماء من الجانبين. وقفت على السور من الجانب الأيمن وانبريت اراقب حركة الماء، كنت نحيفة وكانت سرعة الريح قوية ولا أدري كيف فقدت توازني ووجدتني بجسدي الصغير في مواجهة الماء.
 
مازلت إلى اليوم أذكر تلك البرودة التي سرت في كامل جسدي، الماء تسلل إلى خلاياي ومسامي والاتربة استقرت في انفي وحنجرتي، ولم اتوقف عن الصراخ " ماما، دادا، سيدي" كنت أنادي امي وجدتي وجدّي بلا توقف، كنت أستجير بذكراهم من هول اللحظة.
 
مازلت أذكر أنني كنت ابحث عن فراغ في السور ادس فيه اصابعي لكي لا يجرفني الماء، كنت ابحث عن اي شيء اتشبث به حتى لو كان قشة، ولكن دون جدوى، كان جسدي الصغير يتلاطم بين حافتي الوادي وبح صوتي من الصراخ.
 
 لا أعلم إن كانت الصدفة او دعوات أمي إلى الله ان يحفظني، ولكن حينما تسلل الخدر إلى جسدي وصار ارتطامي بالماء موجعا استسلمت ، لمحني العم ابراهيم رحمه الله على الحافة الأخرى من الوادي. أخبرنا فيما بعد أنه كان يبحث عن دجاجة ظلت الطريق إلى المنزل.
 
مازال صدى صوته يتردّد في أذني وهو يصرخ" الطفلة هزها الواد، الطفلة هزها الواد".. كان صوته اقوى من صوتي وبدأ الناس يتجمعون على حافتي الوادي ومعهم عائلتي.
 
أتذكر فيما علق بذهني أنّ  جدي  أحضر حبلا وربطوه بخصر  ابن عمتي الذي نزل لإنقاذي فيما مسك جدي بطرف الحبل، منذ تلك اللحظة لم أعد أعي شيئا ففي لحظات تشبثي بالحياة كنت أقاوم الإغماء ولم استسلم له إلا حينما رأيت وجه أمي، فحيثما وجدت أمي كنت أشعر بالأمان.
 
أحب المطر كثيرا ولكنني اكره منسوب المياه المرتفع، أخاف أن يخنقني الماء، تخيفني فكرة الموت غرقا، وينقطع نفسي بمجرّد التفكير في تلك الحادثة.
 
ما مررت به لم يكن مجرّد حادث يمكن نسيانه. هي عودة من الموت. ولادة جديدة ودرس مغزاه ألا نضرب عرض الحائط بنصائح من هم اكبر منا سنا وأن لا نتبع فضولنا بعيون مغمضة، كنت طفلة حينها ولكن تلك التجربة صقلت شخصيتي، تجربة لم ولن تمحي من بالي وحتى إن حدث ونسيتها ذكرتني بها عائلتي كلما أمعنت في العناد.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.