سفر في تفاصيل عرض “حمة ويا ليلي”.. أو حينما تصدح زهرة لجنف بتراتيل الحب والحياة

يسرى الشيخاوي-
في الطريق الى عرض "حمة وياليلي"، تتبدّى الحياة في صوت الأمواج إذ تعثرت بالأثير، وفي عناق السماء والبحر ورقصة النسمات على شفا الوجوه موسيقى سرمدية، هي أنفاس الله على الأرض تسري في مدارج ركح الحمامات على إيقاع صوت زهرة لجنف وهي تمده جسرا بين الأرض والسماء في "بروفا" قبل العرض.
وعلى المدارج تبدى فعل الكورونا وتباعد الجمهور ولكن رسائل السماء الساكنة في أصوات الآلات الموسيقية نسجت رابطا هلاميا طمس المسافات بين الجمهور وأسرى بهم في عوالم النشوة.
وبمعزوفة "زهران" التي قالت فيها الإيقاعات قولا كثيرا أُعلن ميلاد الفرح والحماسة على ركح الحمامات، ومن بين الألحان تسللت معاني الحب والجمال والأمل وملأت الفراغات والتجاويف.
وفي تفاصيل عرض " حمة ويا ليلي" ضمن سهريات صيف الحمامات تحيا الحياة بكل زخمها يصبح للفرح صوت تتحسسه كلما نقر العازف بعصاه على الطبل، وبين انغام القصبة يسكن الخشوع وتتهادى المناجاة وفي نغمات الكمنجة يتجلى صوت الحب، وفي الدرامز يرقد الصخب وفي الاورغ يختال الأمل والحنين وفي الغيتارة صوت الحرية والثورة، وفي صوت زهرة لجنف كل ما سبق.
صوتها نابع من القلب يجد طريقه بيسر الى السماء والى قلوب المستمعين إليها، خامتها الصوتية فريدة متفردة، مساحات صوتها لا تعترف بالحدود، صوت يأبى الانصياع للحواجزوالأطر يتلون بكل الالوان الموسيقية ويخلق في كل مرة معنى جديدا للحياة.
عاشقة للتراث البدوي تلاحق الكلمات الأمازيغية والموروث البربري وتنسج منهما مسارا فنّيا يحاكي خصلات شعرها المتمرّدة وصوتها المعمّد برمال الصحراء ونظراتها المحمّلة بحكايا الجدات وقصص المحبين.
فنّانة تونسية الهوية أمازيغية الهوى تخلق من الفن أجنحة ترفرف في كل أصقاع العالم، تحفر عميقا في أصل الموسيقى التونسية وتضرب فيها جذورا تعانق موسيقات العالم وتنهل منها.
صوتها إذ لبّى نداء الموسيقى يحاكي عزف الرياح على أوتار الرمل ومغازلة القمر لعراجين النخيل، ويترجم رنّة "الخلخال" في أقدام النساء ورنين الأساور إذ رقصت أياديهن.
في حنجرتها يسكن صوت الرحى حينما تلامس حبات القمح والشعير، ووقع عزف "الرطّاب" على خيوط الصوف ذات نسيج  ودندنة الخلالة وهي تسقط على الخيوط فتلتحم دون مقاومة، وأهازيج النسوة وهن يفككن "الكليم" أو "البرنس" أو " العبانة" من المنسج.
مختلفة كعادتها، اختياراتها للازياء متناسقة مع نهجها الموسيقي، بسيطة أنيقة محمّلة بالتراث حيثما ولّت وجهها، وعلى ركح الحمامات أطلّت على جمهورها بملحفة مهذبية بيضاء اللون مطرّزة بألوان الحياة.
كحمامة حب وسلام، اختالت على الركح وصدحت بتراتيل الحب والحياة، ووهبت "صوت مهذبي" لباعثة الملحفة حفصة المهذّبي السلامي، هي فنانة جبلت على العرفان وعلى المحبة، فنانة تحيا بالأمل والحلم أنّى سارت.
"زينك عجيب"، و"حمة ويا ليلي" و" شارد الغزال"، و"طير الريش" و"سوسم" و"تزيان" و"لين طاح الليل" و"ڨوڨا ممّي" و"جمل يربخ" و"غيم  و "رڨراڨ"  و"لامن يجينا" وعالذرعانة" "سودة أنظاره" و"شامة" و"ساقوه رحل"، أغان من التراث التونسي والأمازيغي تخفف معها الجمهور من سوداوية الواقع.
ليست المرة الأولى التي تعتلي فيها زهرة لجنف ركح الحمامات، ولكنّها كانت محمّلة بفرح العناق الأول مع الخشبة، وفي خصلات شعرها الأسود المسجّى على كتفيها حكايا العاشقات وبعض من خيوط الليل.
وملابس العازفين والمردّدين تحاكي سواد الليل وشعرها، وزيّها الأبيض يكسر الحلكة ويخلق تناغما بين القيم الضوئية وبين تناقضات الحياة، وعلى الركح ينشأ زمن موسيقي يمتد من التراث لينفتح على تلوينات الموسيقى الافريقية والهندية.
عرض غنائي حملت به  زهرة لجنف جمهورها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ورافقتها أصوات المردّدين عبد الله يحي وأيمن بن حسن وعمر أدرار، أصوات خزّنت في تفاصيلها الذاكرة الغنائية.
من تفاصيل مدينة قفصة والجنوب الشرقي خلقت عالمها الموسيقي ومدّت جذورها من الصحراء إلى الجبال تطارد الموروث الشفوي تخزّنه في قلبها وتشحنه بنبضاتها وحينما تلفظ كلماته تروي حكايات منسية.
في صوتها سفر بين الصحراء والبادية، روايات لأهازيج البدو وحكايات النساء الامازيغيات وتهويدات الأمهات ودعاء الجدّات وانفعالات الانسان في وجه الحياة، في صوتها ذاكرة وذكريات. 
للحب وللحياة وللأم غنت زهرة لجنف، ونثرت العرفان على الركح واحتفت بأسماء تركت بصمتها في مسيرتها، وتهادى صوتها بين كلمات قادمة من عمق الجنوب وأخرى حمالة لشجن الأمازيغ.
من التهويدة الأمازيغية التي ينساب فيها صوتها عذبا وديعا رقيقا، إلى الصالحي حيث يضاهي صوتها أنين القصبة وصخب الطبل تلامس زهرة لجنف شغاف القلوب تغازل جمهورها والكون.
مناجاة بين العازفين وآلاتهم الموسيقية يقودها عازف الغيتار أحمد بن حسن، تجلّت للجمهور على هيئة ألحان مارقة عن التصنيف تثير فيك الحنين والخيال وتغوي الأجساد بالرقص، برزخ من الإيقاعات تتماهى فيه عوالم موسيقية مختلفة.
وعلى ركح الحمامات يسكب الموسيقيون من أرواحهم ومن تجاربهم في آلاتهم الموسيقية حتّى بدت النوتات بعضا من آهاتهم وانفاسهم وضحكاتهم وصمتهم، نوتات تزيّنها زهرة لجنف بصوتها الذي يسري الأرواح فكان الغوص في تفاصيل عرض "حمة ويا ليلي" أشبه بالسفر بين الحب والحلم والفرح والحنين.
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.