50
يسرى الشيخاوي –
أمرر أصابعي على شاشة هاتفي دون هدف أو غاية، أقتل الوقت أو الملل أو الحنين، لا شيء في هذا العالم الافتراضي يشدّني ولو لحظة فيقتل رتابة استبدت بي، وكأن الزمن توقف وأنا أمسح على وجه هاتفي وكأنني أربت على ذاتي وهي تنشد التحرر من ذات الحركة التي أكررها منذ زمن لم أعد قادرة على قياسه.
حينما هممتُ بانتشال اصبعي من الهاتف الجوال والقائه بعيدا لانطلق في طقس تأمل سقف الغرفة وقعت عيني على صورة للفنانة سعاد محاسن شاركها ابنها محمد علي النهدي على صفحته بالفايسبوك..
رقيقة جميلة بفستان أبيض بدت فيه كحمامة زاجلة تحمل في صوتها ذاكرة الكاف وجبالها وسهولها وتفاصيلها التي تزين الأغاني التراثية التي صدحت بها حنجرتها حتّى كادت الكلمات تعانق السماء.
لم اتوقف عند تلك الصورة، وتجاوزتها الى صور أخرى أقّلب ناظري بينها يتبدّى لي بعض من حياة فنانة مزجت بين الرقص والغناء والتمثيل ونسجت مسيرة فنية عصية على النسيان.
هي ابنه الكاف التي يمتدّ صوتها من عمق الأرض الى أعالي الجبال، هي "أم العيون ملاح" التي يترسم الحب والشغف في نظراتها، هي الناعمة الهادئة في صخب، هي من تحمل في مرورها الكثير من "النسمة الكافية".
بخامتها البدوية المعتقة روت حكايات الحب والعشق ووجع الفراق والبين وثورة العشاق ان استبد بهم التيم وبثت من روحها فيها وصنعت لنفسها اسلوبا فنيا لفت إليها الأنظار، أسلوب فني لا يتكرر.
"جيبولي خالي"، و"ريم القيادة"، و"النسمة الكافية" و"داني داني" و"حنا ڨولي لباباي" و"سوج هالحمام" و"مرض الهوى ڨتالة" و"يا لالي ويا لالي" و"يا طير الحمام" بعض من الاغاني التي وسمت مسيرة سعاد محاسن.=
ومسيرتها الفنية لم تقتصر على الغناء الذي نذرت له نفسها فبحثت في تراث جهتها وأمضت عمرا في ملاحقة كلمات عن هذه الأغاني ونفض الغبار عن "الڨوالة" وحفظها من "الغنايات"..
في شخصيتها محاسن كثيرة منها استمد الراحل عبد العزيز العروي تسميتها الفنية، ومنها رسمت لنفسها دربا فنيا راوحت فيه بين الغناء والمسرح والسينما والتلفزيون وخطت تاريخا شامخا كجبال الكاف العالية.
عاشقة للاختلاف ومغامرة لم تتردد في صعود الجبال لتلاحق كلمات أغان تراثية فتبعثها من جديد في روح جديدة وتخلّدها في الذاكرة الفنّية، مؤمنة هي بكلمات الاجداد وبحكاياهم وموسيقاهم التي تحاكي هواجسهم وما يختلج وجدانهم من مشاعر ورغبات.
بالتوازي مع رحلة النبش في عمق التراث الغنائي كانت تدرس المالوف وتحفظ المقامات والطبوع التونسية، لتتماهى في أدائها المعرفة والموهبة فتبدو على المسرح واثقة آسرة.
الفنانة التي نبشت في الذاكرة الغنائية فآوت صوتها، اصابها المرض في ذاكرتها وبلغ بها النسيان عتيا، لا أحد يمكن ان يحدّد شاكلة الصور في ذاكرتها هل هي سوداء أم رمادية أم يلفها الضباب ولكن الأكيد أن صورتها في الذاكرة الفنية ملونة بألوان الحياة مشرقة كابتسامتها.
"صغير وريقو شاح " تصدح حنجرة الفنانة سعاد محاسن متحدّية النسيان ونظرات تائهة، قد تنسى بعض التفاصيل وقد يلف السلوان كيانها ولا تجد أجوبة لأسئلة لا حدود لها ولكنها لم تنس أنّها فنانة والفن ينساها.
أصابت العلة ذاكرة الإنسان لكن ذاكرة الفنان فيها تأبى أن تستسلم للنسيان، وان ابتلعت ذاكرتها بعضا من ماضيها فإنّها لا تقوى على ابتلاع صوت ردّدت الجبال صداه، وإن غابت عنها الذكريات فإن ذاكرتها وذكرياتها المزروعة في قلوب الكثيرين حاضرة دائما.
وإن مرّت سنين كثيرة فإن ذاكرتي لم تسقط ذلك اللقاء مع الفنانة سعاد محاسن في المهرجان الصيفي بالقلعة الخصبة، كنت أحبها ويأسرني صوتها ورقصها ولا أفوّت الفرصة لتقليدها وكانت عمّتي تعلم مدى حبي لها فلم تتردّد في أن تصحبني لمواكبة حفلها.
كلّما تذكّرتُ تلك الليلة ابتسمت ابتسامة أعجز عن فكّ شيفراتها، رقصت كثيرا وفرحتُ أكثر برؤيتها عن كثب وأشكّ أن الجميع سمعوا دقات قلبي حينما حملتني عمتي لألتقط صورة معها، صورة كنت فيها وسعاد محاسن وأختي وابنة عمّتي.
كان شعري أشعث ،ليلتها لم أرتب خصلاته الثائرة قبل الخروج ولم أتأنّق حتّى أنني لم أع ذلك حينها ولكن تفطنت إلى ذلك عند مشاهدة الصورة بعد سنوات ولكن ما أعلمه حقا أنني كنت منتشية جدّا.
منذ أن رحلت عمّتي عن هذا العالم لم أفتح ألبوم الصور الذي تحتفظ به في غرفتها، أحاول أن أقبر ذكريات كثيرة وأطمس الطريق إلى ذاكرتي فالوقوف بباها متعب ومضن ولكن يحدث أن تهزمك ذكرى وتخضعك إلى تفاصيلها.
وإن فتح باب الذكريات لن يكون من الهيّن إغلاقه، ولكن حسب المرء تلك السعادة التي تشوب بعض التفاصيل، رحم الله عمّتي التي لولاها لما رأيتُ سعاد محاسن وشفى الله سعاد محاسن..