“ستموت في العشرين” حينما تتشبث الحياة بـ”ابن الموت”

يسرى الشيخاوي-
ليس أشد وجعا عليك من أن تتخلى عن جنونك وتكبح جماح الأمل فيك، وليس أشدّ وجعا من أن تعانق طيف "عزرائيل" أناء الليل وأطراف النهار، ليس أشد وجعا من أن تخرس صوت الحب فيك لأن صوت الموت يملأ كل التجاويف.
 
وليس أقسى عليك من أن تحدد مدى ذراعيك وهي التي تنشد آفاقا سرمدية، وليس أقسى من أن تهرب من حضن حبيبك قبل أن تملأ روحك من العناق الاخير، وليس أقسى من تخرّ على ركبتيك وتعلن انتهاءك قبل النهاية.
 
وليس الموت فقط أن ترقد الأجساد تحت التراب وتحلّق الأرواح بعيدا، بل للموت تمظهرات اخرى كأن تسكت صوت الحياة من حولك، وكأن تطمس ألق الامل الساكن فيك و كأن تؤمن بتاريخ موت حدّده الآخر لك.
 
فكرة إخبارك بموعد محدّد لموتك وإيمانك ومن حولك بها قد تبدو سريالية بعض الشيء، وإن كان بالإمكان تقبّل الامر حينما ينبئ أطباء مرضاهم بأن شهورا أو أياما معدودات فقط تفصلهم عن الموت فإنّه من غير المنطقي أن يستند الامر إلى ضرب من "التخاريف"، تخاريف سدّت كل سبل الحياة أمام عائلة سودانية.
 
وعلى إيقاع موت محدّد، تقحمك  كاميرا المخرج السوداني أمجد أبو العلاء في تجربة حسّية وجودية تتجلّى في كل تفاصيل فيلمة " ستموت في العشرين"، وأنت تتأمل تسليم عائلة بموت ابنها في سن العشرين، تغرق في التفكير في الحكمة من وراء الجهل بيوم موتك.
 
من قرية سودانية نائية، سارت الام السودانية "سكينة" إلى مقام  "شيخ" ليبارك رضيعها "المزمّل"، وحيدها الذي دفّأت حضنها بانفاسه طيلة الطريق قبل ان ترميه في حضن "الشيخ" وتسري برودة "الشؤم" بدل الدم في شرايينها.
 
لحظات معدودات تلك التي دامتها ابتسامة الام وهي تتطلع إلى محيا رضيعها، قبل أن تنطلق رحلتها مع الطيرة حينما تبدّت طقوس المباركة على وقع تمايل الدراويش وإنشادهم "طلاسم" لن تفهمها.
 
وبين "الطلاسم" يتجلّى مزيج من أسماء الله الحسنى وأعداد يتلوها الدراويش تصاعديا، إلى أن سكت صوت أحدهم وخرّ على الأرض مغشيا عليه عند الرقم العشرين لتتلوّن وجوه كل الحاضرين بلون الوجوم وتوشّحت فصول قصّة "المزّمل" بالسواد.
 
ومنذ مغادرة "المزار" قطعت العائلة الصغيرة مع مظاهر الفرح، وتدثرت امه بالسواد منذ ذلك اليوم حتّى بلوغه سن العشرين وعاش كل سكان قريته مؤمنين برحيله ما إن يتم عقدين من الزمن.
 
وفيما عانقت الام السواد ورسمت به رموز العد التنازلي على حائط قصي في منزلها، أعرض الأب عن المشهد التراجيدي ومضى في الارض يجول بين دول افريقية عديدة هربا من الفأل السيّء، هي رؤية سينمائية تصوّر المرأة قوّية في لحظات الهوان تحاوط ابنها من كل صوب لتحميه دون ان يتزعزع إيمانها بأنه سيرحل في العشرين.
 
وإن تبدو بعض تفاصيل الفيلم سوريالية إلا انّها تلامس الواقع فبعض الآنام يتغذّون اليوم من التخاريف ويؤمنون بها وكأنها تنزيل من السماء فيشكلون عزلتهم بتفكير صنعوا له حدودا من الجهل، حدودا تجعلهم يمحون كل فرضية للحياة.
 
مع كل السوريالية التي ترافق فعل تصديق "نبوءة" الدراويش" وإيمان ام "المزّمل" واهل قريتها بها، فإن الزمن الدرامي في الفيلم يبدو واقعيا جدّا ويحاكيه التنويع على مستوى الشخوص، شخوص وقفت في منتصف الطريق بين الواقعية والماورئيات.
 
"ستموت في العشرين" يتستمدّ جمالية صوره وأحداثه المشبعة بالدارما من قصّة للكاتب السوداني حمور زيادة، وفيه قراءة موجعة لواقع بعض المجتمعات التي مازالت سجينة معتقدات بالية.
 
ولما كان "المزّمل" يحفظ القرآن بروايتين ليلاقي ربّه حاملا كلماته، ظهر في حياته " سليمان" وهو شخص "منبوذ" في القرية لأنه يحب الخمر والنساء والسينما، وعلى نسق اللقاء بين شاب يعانق الموت كل يوم وكهل يلاحق الحياة في تفاصيل يومه تتجلّى ملامح التناقض في المجتمع السوداني.
 
و"سلميان" هو المنفذ الاوحد لـ"المزمّل" في سجنه الواسع في قريته النائية، منفذ يرى منه العالم الآخر عبر الأشرطة السينمائية وصور الراقصات والأغاني المصرية القديمة التي تلامس شغاف القلب دون إذن.
 
إلى جانب "سليمان" كانت "نعيمة" رفيقة صبا "المزمّل" أحد الاحضان التي رامها في طريقه إلى الموت، لكنّها أفلتت يده وتزوجت شخصا آخر فكانت عنوان لوجع لم تسكته صرخته المدوّية وهو يلامس مياه البحر بعد ان كان يخافها في صباه إذ كان يعتقد انه سيموت غرقا.
 
ولأن الفتى الذي يأنس الموت منذ ولادته ويألف السواد في ملابس امه منذ أن صار يعي معنى الاوان، اصطبغ بطباع مجتمعه فإنه انكر رفقة "سليمان" وأطرده من حياته حينما ألح عليه في أن يحيا دون هلوسات الموت.
 
وعند بلوغه الأجل الموعود كان "المزّمل" قد ودّع "سليمان" الذي سافرت روحه إلى عالم لا تكون فيه كل الاعين رقيبة، فانفلتت كل رغباته تباعا وعشق ليلتها الخمر والنساء وأتى كل الأشياء التي أعرض عنها قبل أن يرقد في قبره المنشود منذ سنين.
 
قوية سلبية واجمة كعادتها، كانت أمه تحضرّ كفنه والعطور والبخور وكأنّها ستزف ابنتها إلى الموت، ولكن الموت لم يأت وهدم حيطان العبودية المقدّسة على رؤوس الكل وكذب نبوءة "الشيخ" ولكن من يعوّض ل،"المزمّل" سنين الرهبة من الخوف، ومن يعوّض لأمه حزنها السرمدي ومن يعوّض لوالده سنينا قضاها بعيدا عنه كي لا يؤلمه موته حتّى انّه حضر حينما اقتربت أجله.
 
وعلى طريق ترابية غابت معالمها يركض "المزمّل" بعد ان غادر "قبره" ويخطّ بفدميه علامات حياته ولا يتوقّف عن الجري وهو يلاحق شاحنة تشبه تلك التي عاد فيها والده ليحضر مراسم دفنه.
 
وبين فاتحة الفيلم وخاتمته تتشابك الأحداث وتتفرع سبل الحياة عن سبيل الموت الذي رسمته نبوءة " شيخ" كذّبتها الأيام، وتتشبث الحياة بابن الموت الذي رماه أترابه في تابوت وهم ينادونه " يا ود الموت"، ويحيا المشاهد بين تفاصيل بصرية مغرية وبنية درامية آسرة.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.