يسرى الشيخاوي-
في حضنه يسكن العود، يهز الريشة بأنامله يغازل أوتاره فتنطق خجلا وعشقا وتنساب النغمات لتروي حكايات تشبه تقلبات الحياة، وصل موشّح بخشوع يغدو معه العازف زياد الفطناسي وعوده كيانا واحد حتى لا تعلم إن كانت النغمات نب قلب العود أو نبض من آواه.
للعود سحر يجول بك بين عوالم الشجن والطرب والحنين، ولكن لعود الفطناسي سر يغويك بالانغماس في ألحانه وملاحقة تفاصيلها المحمّلة بروايات تبكيك وتضحكك في ذات الآن وتسري بك من الأرض إلى السماء.
عازف زاده الأمل..
على الركح، يزهد عن كل ما حوله ويتشبث بعوده يبث فيه هواجسه وأحاديثه ما قيل منها وما لم يقل، يغمض عينيه ويضمه إليه ويطلق العنان لريشته تداعب الأوتار فتردّ بصوتها الساحر ويتحرر من الوجود المادي ويغدو امتدادا لموسيقاه.
ألحانه صادقة حدّ الإيمان، نابعة من قلب إنسان خبر وجوه الحياة الكثيرة وروح فنان لم يرم المنديل ومضى في درب معبّدة بالأشواك، مسيرة صادف فيها الإحباط بتمظهرات كثيرة لكنه كان يستمد الأمل من الريشة والأوتار.
متلوّن على الركح، لا يمكنك تكهن حالاته الفنية وهو يعانق عوده، كثير الحركة على الركح، يكفي أن يتماهى مع ألحانه حتى تتبدى لك شخصيات مختلفة من جنس الحكايات التي يعزفها.
مارق عن الصورة الكلاسيكية لعازف العود، يعزف واقفا ومتحرّكا حتى أنه يحمل عوده على شاكلة القيتارة، مجدّد في العزف على العود يبحث في هذا التجديد عن نفسه ويلاحق الأمل في بلد يهوى مسؤولوها وأد الآمال.
في ذاكرته ووجدانه صور عن الموشحات والمالوف التي كان يسمعها رفقة والده، وكورال الأطفال الذي كان يحضره وإخوته، وفي داخله يؤوي الأغاني الطربية وموسيقات العالم من تركيا إلى الهند، وفي قلبه حب لموسيقى أنور براهم وظافر يوسف.
في مسيرته الفنية خيبات كثيرة، لكن نبرة صوته ترشح تفاؤلا وهو يتحدّث عنها وكأنه يسخر منها أو يقول لها ها إني حي وحر مادمت أعزف على عودي وأخلق ألحاني من رحم وجعك.
في حديثه عن الرباط الذي يجمعه بالعود، يعود زياد فطناسي بذاكرته إلى سنوات الطفولة أنّى أحب العود الآلة الموسيقية التي كان يعزف عليها والده خميس الفطناسي، ولكن والده لم لم يرض بهذا الحب ربّما هو قلب الأب كان يستشعر الصعوبات التي ستواجه ابنه في المجال الفني في تونس.
فسيفساء من التجارب
رفض والده لم يكن سببا كافيا ليفرّط في حبه للعود وكان أن ألف عقاب والده في كل مرة يعانقه فيها، وحدث أن صنع عوده من لوحة وخيوط ليحس وجود الآلة التي يحب حذوه، وكبر الفطناسي وكبر معه هذا الحب وكان أن صعد على ركح مسرح الجم مع الفنان زياد المالكي سنة تسعة وتسعين وتسعمائة وألف.
وكانت هذه التجربة بداية خيبات الفطناسي في عالم الفن إذ كانت المسابقة مخصصة للاكتشافات الجديدة ولكن الجائزة آلت إلى فرقة موسيقية معروفة، كانت صدمة ولّدت لديه رغبة في التحدّي من أجل الوجود في المشهد الموسيقي التونسي، وفق حديثه.
سنة الخيبة تلاها لقاء بالفنان ياسر جرادي في النادي الثقافي الطاهر الحداد وكان أن تأسست مجموعة شمس المتوسط التي تضم زياد الفطناسي عازف عود ووسام العش عازف بيانو وياسر جرادي عازف غيتار و"ابدولاي" ووليد غراب عازفي إيقاع وسفيان بشر عازف كلارينات وسلوى الطرودي.
في ألحانه كان يروي حكاياته، صراعاته مع نفسه والمحيطين به منذ طفولته مرورا بحربه التي خاضها ليعزف على البيانو، فنان عصامي التكوين علّم نفسه بنفسه وشكّل معالم أسلوب فنّي متفرّد حلّق فيه بأجنحة العود في عوالم موسيقية مختلفة.
وفيما هو يصارع من أجل البقاء الموسيقي، كانت تجربته تتشكل شيئا فشيئا، وفتحت له النوادي الثقافية أبوابها، وهو يستحضر اليوم بامتنان برمجة عرض له في ربيع الموسيقى من قبل مديرة النادي الثقافي الطاهر الحداد خديجة كمون.
في دار الثقافة بئر الاحجار والسليمانية ودار الثقافة بن رشيق انسابت نغمات عوده وفي المركز الثقافي اليوناني أيضا، قبل أن يشارك بعروض في دورات ثلاث لمهرجان المدينة، تجارب متنوّعة يولد معها زياد الفطناسي من جديد وينشئ معاني جديدة لحياته.
أما في سنة ثمانية عشر وألفين فكان اللقاء بينه وبين الموسيقي لسعد المعتمر عازف الاوركستر السمفوني وكان التماهي بين المقامات التونسية والايقاعات الغربية في المشروع الموسيقي "مرقوم جاز باند".
فسيفساء من التجارب الموسيقية شكّلها زياد الفطناسي في مسيرته، إذ كانت له تجربة في الموسيق التصويرية في فيلم "صامدون" لمروان الطرابلسي و"مختفون" لإيمان بن حسين إلى جانب موسيقى مسرحية " الكاهنة" للممثّلة الراحلة سعيدة سراي.
باق ما بقي الريشة والأوتار..
عثرات كثيرة وسمت مسيرته الموسيقية، وكان في كل مرة يحترق من فرط وجعه لينهض من رماده كطائر الفينيق، ومع كل معاملة سيئة من وزارة الثقافة ينتكس ومع كل تجاهل للملقات الفنية التي يقدمها للمهرجانات تتدب الخيبة إلى نفسه ولكنه لا يلبث أن يتماسك ما إن يضرب بريشته على الأوتار، على حد تعبيره.
غربة داخل الوطن يستشعرها زياد الفطناسي ولكنه يقاومها بالعزف، وفي الحجر الصحي بعث الحياة في مشروع موسيقي جديد "Zied Fatnassi Quartet"، وتستمد التسمية أصلها من مشاركة أربعة عازفين في هذه المشروع هو الفطناسي وعازفة الفلوت "فاني فالوا" وعازف الايقاع إلياس غرابي وعازف الباص سليم عبيدة.
هوس بالموسيقى الآلاتية يدفعه في كل مرة إلى خوض تجربة جديدة يتقاسم فيها الشغف مع عازفين تجمع بينهم تضحياتهم من أجل الفن، كالتجربة التي جمعته بسليم عبيدة والتي تمتد إلى تجربة أخرى في ألبوم بعنوان "درة".
و"درة" ألبوم يحمل اسم ابنته، نواته معزوفة يلف صوته بالدمع وهو يتحدّث عن تلحينها، هو حب الأب لابنته ترجمه بنوتات تأبى الترجمة، نوتات تسمعها وتستسلم لها وأنت تلاحف تفاصيل المحبة والأمان فيها.
والألبوم الذي يختزل تجربة فنان عصامي دق الصخر بريشته لينحت صموده وبإصراره بهمسات الأوتار، سيعرض لأول مرة في فرنسا وتحديدا في باريس على منصة مرئية رقمية.
بنفس فلسفة عشق الموسيقى الآلاتية يواصل زياد الفطناسي طريقه رغم الخيبات، ويوجد لغة تخاطب بينه وبين العازفين الذين يشاركونه رؤيته الموسيقية حتى أنّه لا يخطر ببالك أنّه عصامي التكوين، وهو اليوم يبتسم لخيباته ويخبرها أنه باق ما يقيت الريشة والأوتار.