روبرتاج/ العاملات في صنع “الخبز العربي”: لَفْح “الطابونة” أرحم من فقدان “السميد”!

مروى الدريدي-

ترُشُّ جانبا من قطعة الخبز وهي ما تزال عجينا بقليل من الماء، ثم تنحني لتلصقها بخفة وبراعة داخل "الطابونة" التي يتصاعد لفحها من شدة الحر، وتعيد الكرّة بذات الخفة والسرعة مرة اثر مرة، وفي كل مرة تتقلص عيناها ويصدر منها صوت أشبه بالأنين، وهي ردات فعل لا ارادية من وهج "الطابونة"، وتظل على ذلك الحال حتى تُنهي جميع الخبز من "الصينية" التي وضعتها ابنتها بالقرب منها.

"محرها الطابونة.. الدولة غلت علينا العيشة بنيتي، معادش خالطين، الخبزة بـ600 نبيع فيها وكيلو السميد بـ800 ومناش خالطين عليه كنا نشرو الكيلو بـ400 فرنك.. عايشين بالسيف".
 
هكذا تحدثت عزيزة، وهي امرأة في بداية العقد السادس من عمرها، تمتهمن منذ سنوات صناعة "خبز الطابونة العربي"، فهي وفية للطابونة المصنوعة من الطين ولم تغيرها رغم ظهور نوع جديد مصنوع من الحديد ويشتغل بقوارير الغاز. لم تخف سنوات العمر ولفح "الطابونة" ملامحها الجميلة والابتسامة التي تعلو مُحياها بين الحين والاخر، غير أن نبرة صوتها الحاد ونظراتها القلقة والمشتتة تدلان على ضيق الحال وشظف العيش.
 
تقول عزيزة وهي تسترجع ذكريات شهر رمضان بكل حسرة، إنها كانت في اليوم تعجن 50 كيلوغراما من السميد، وتوقد "الطابونة" 3 مرات، وكان الاقبال كبيرا من عشاق "خبز الطابونة العربي"، لكن رمضان هذا العام قاس جدا عليها لعدم توفر السميد وخسارتها لعدد كبير من حرفائها.
 
عزيزة تعد "خبز الطابونة"
 
 
عزيزة كغيرها من النساء اللواتي يزدهر نشاطهن في شهر رمضان المعظم لاقبال التونسيين على خبز الطابونة وتفضيله على أنواع الخبز الأخرى الموجودة في المخابز العصرية، غير أن نقص مادة السميد وفقدانها في أغلب الأحيان، فضلا عن فقدان الخميرة والزيت وهي من أساسيات صنع "خبز الطابونة" أضرّ بهن وهدد قوتهن اليومي، إذ أن ما يكسبنه يوميا من هذه المهنة الشاقة لا يكفي لسداد متطلبات العيش التي أرهقت كاهلهن.
 
ومنذ أشهر تشهد تونس شحّا في بعض المواد الغذائية الأساسية على غرار السميد والفارينة والأرز والزيت، وفي حال توفرت يجري تحديد كمية معينة لكل مواطن. وفي تصريحات صحفية سابقة، قالت وزيرة التجارة فضيلة الرابحي، إن ارتفاع الطلب دفع إلى تسجيل اضطراب في التزود بالعديد من المواد، وأكدت أن الاحتكار، وزيادة الطلب وارتفاع أسعار البترول والمواد الأولية في العالم، هي أبرز أسباب النقص في بعض المواد الاستهلاكية الأساسية في تونس.
وضع حليمة لم يكن أفضل بالمرة، وهي امرأة تشتغل منذ 35 سنة في صناعة خبز الطابونة، ولها حرفاء أوفياء لخبزها، غير أنها منذ دخول شهر رمضان لم توقد "الطابونة"، لأن الكلغ الواحد من السميد الذي تتحصل عليه من "العطار"، لا ينتج إلا القليل من الخبز و"تعبو أكثر منو" مثلما تقول.

 
 
 طابونة حليمة وهي مغلقة
 
حليمة التي فضلت عند لقائنا معها عدم الكشف عن وجهها، تحدثت بكل أسف لتؤكد أنه لم يمرّ عليها شهر رمضان كهذا الشهر بالمرة، وأصبحت رحلة البحث عن "شكارة السميد" مرهقة جدا بالنسبة لها واصفة إياه بالمعدن النفيس.
 
فيديو لحليمة وهي تتحدث بحسرة أمام طابونتها المغلقة:

 
في السابق كانت حليمة تشتري ما قيمته 100 كلغ من السميد، وتخبز خبزها وتبيعه لحرفائها ممن يفضلون "الخبز العربي" على "الباقات"، وتوزعه أحيانا مجانا على أقربائها فهي كما تقول "كان الخير بزايد"، أما اليوم فضاق الحال عليها واضطرت للاكتفاء بعمل التنظيف بعد أن حُرمت من مهنتها التي تحبها وتتقنها، ورغم لفح النار ووهجها إلا أنها تجد متعة في ذلك لأنه أرحم لها من الحاجة وخاصة من فقدان السميد، وفق تعبيرها.
 
معاناة عزيزة وحليمة ليست إلا نافذة عمّا يكابده عامة التونسيين يوميا من "جري وراء الخبزة" ولهذه العبارة رمزية كبيرة كون الخبز عنصر أساسي وحياتي للتونسيين وتوفُّره دليل على الوفرة وتحقيق الاكتفاء الغذائي وأن التونسي لن يجوع، غير أن الواقع يشي بغير ذلك..

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.