رقصة آوا” للباليه الياباني: عن الرقص والموسيقى وقصص اخرى

يسرى الشيخاوي-
 
الرقص، ليس فقط خطوات تحاكي إيقاعات وألحان، إنّما هو أيضا أسلوب حياة، تعبيرة عن دواخلنا، صرخة واحتجاج، تمرّد وحنين وبعض من الماضي تغازله أجسادنا إذا اشتاقت إلى أيام خوالي.
خطوات ترتبها النغمات، وتستسلم لها كل الخلايا والمسام فلا ترتبك الأجساد وإن كانت لا تجيد الرقص،خطوات تمتدّ بين الماضي والمستقبل وتحمل بين تفاصيلها زخما من الأحاسيس تنعكس ألقا في الأعين أو ابتسامة تزين الشفاه، تماما كتلك التي لا تفارق وجوه راقصي وراقصات الباليه الياباني.  
أكثر من ستة وعشرين  راقصا وراقصة يخطون  على ركح المسرح الأثري بقرطاج حكايات قادمة من عمق اليابان ترشح حلما وحياة وجنونا،  حكايات حملت بعضا من اليابان إلى جمهور صافحت أعينه ألوانا وابتسامات بنكهة الحياة.
إيقاعات عميقة وكأنها قادمة من باطن الأرض، تؤذن بانطلاق العرض الكوريغرافي "آوا" الذي كان هدية سفارة اليابان بتونس لجمهور الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج، وذلك احتفالا بخمسينيتها.
ورقصة " آوا " امتداد للتراث الياباني، والتسمية مستلهمة من إسم الإدارة الإقطاعية القديمة لمحافظة توكوشيما، حيث يعدّ الرقص روحا للحياة وتعدّد أصوله وأساليبه لتلتقي جميع الرقصات عند الانتشاء.
مادّيا أنت في تونس، في رحاب المسرح الأثري بقرطاج، ذلك الفضاء الحامل لحكايات لا تمّحي بفعل السنين بل تتعتّق وتصير أكثر عذوبة، ولكنّ روحيا أنت في قلب محافظة توكوشيما حيث تبدو تفاصيل الطبيعة شبيهة بالجنة.
تحتدم الإيقاعات، ويلبي الراقصوان والراقصات الذين يطلف عليهم اسم " كيكوسوران" نداء الموسيقى بأزيائهم التقليدية وألوانها التي تشبه ألوان الطبيعة في "آوا" خلال الفصول الأربع، ألوان مفعمة بالحياة والحماسة، تزيدها تسريحات شعر الراقصات وابتسامتهن التي لا تغادر محياهين ألقا وتوهّجا.
وفيما أعضاء الفرقة الموسيقية يناجون آلاتهم التقليدية فتُخلق في الأثناء إيقاعات وأنغام  تحملك إلى الماضي حيث يقاتل أسلاف اليابانيين من أجل الحياة، تعانق أقدام الراقصين والراقصات وجه الأرض، يثبون إلى الأمام ثم إلى الخلف بحنو ورشاقة وتتطلّع أعينهم إلى شيء جميل يجعلهم يبتسمون بلا هوادة.
وفي أرجاء المسرح الأثري بقرطاج، يتردّد صدى  النغمات المسكرة للعود الياباني "شاميسين"، تعاضد صوت الإيقاعات الصاخبة المنبعثة من من طبول التايكو، وبينهما أجراس كين تدعو الجميع إلى أن يحيوا الحلم في كل لحظة وبكل تفصيل فيما يستحضر ناي الشينوبو الحنين، ولا يلبث أن ينطلق صوت مغنّية تترنّم بكلمات يابانية وتردّدها بخشوع المصلي.
صاخبة هي الحياة، وهادئة تارة أخرى، فيها منبسطات ومنعرجات ومرتفعات وحفر، وفيها نسيمات ورياح عاتيات، وفيها غيث وصواعق، هي الحياة كما ترجمتها رقصة "آوا" والموسيقى التقليدية المصاحبة لها، وداب الراقصون والراقصات ثناياها بأزياء " أوبون" التقليدية.
وعلى الركح، اختال الراقصون والراقصات بأزيائهم الملوّنة وجواربهم البيضاء فكانوا امتدادا لألوان الطبيعة في حالات انتشائها، وخلافا للفتيان ارتدت الفتياتفي بعض اللوحات الراقصة زوجا من الأحذية التقليدية يطلق عليها اسم زوري أو غيتا،تشبه إلى حد كبير القبقاب، وغيتا تجعل من حركات السيقان أكثر إثارة ذلك أنّ تصميمها ذو الكعبين يشدّ الأنظار.
وفي أحضان المسرح الروماني، حلّت محافظة توكوشيما بعطور الفصول الأربع عبر الموسيقى والرقص والغناء، هنا هارو (الربيع) بأزهار البرقوق والكرز  والكامليا واللوتس  وناتسو (الصيف) بلياليه الصيفية الجميلة والألعاب النارية التي تزينها  وغاباته الجبلية الموشحة بأوراق البلوط والكستناء وأكي(الخريف) بأيامه المنعشة وطقوس الحصاد واحتفالات لا تنتهي وفويو (الشتاء) برياحه الباردة وثلج ناصع البياض وتقاليد متجدّدة.
انحناءات متناغمة للظهر وانثناءات في الركبة وحركات متناسقة للأيدي والسيقان، مع وثبات سريعة تحيلك إلى محاربي الساموراي، تتخللهما هتافات وصرخات تحتفي بالفرح والانتصار، في رقصة "الآوا" التي ليست إلا طقسا من احتفالات أوبون أو مهرجان الموتى، وهو مهرجان يقام على نخب زيارة أرواح الأسلاف الموتى لأقاربهم الأحياء لبضعة أيام كل عام.
وفي كل الفصول الاربعة يرقص سكان توكوشيما على وقع ذكرى الراحلين إلى العالم الآخر، يخرج الجميع إلى الشوارع ويتشاركون الرقص ويبتسمون في وجه الفراق، وكذا كان الأمر على ركح المسرح الأثري بقرطاجفي نهاية العرض، إذ دعا الراقصون الذين تنقلوا بين المدارج والكراسي الجمهور إلى مشاركتهم رقصة "آوا".
وعلى الركح كانت الابتسامة كلمة السر، حيث دعت إحدى الراقصات الجميع إلى الإفراج عن أسنانهم أثناء الرقصة، وكانت دليلهم في تعلّم حركات اليدين والساقين، طيلة عشرين دقيقة، كانت عنوانا للعفوية والفرح، وحطت فيها الأقدام قصائد لا تعلمها إلا أنفس الراقصين.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.