رضا ذيب.. فنان يسخّر الخطّ ليعانق أفقه المبين

يسرى الشيخاوي-
 
الخط ليس فقط نقاطا متعاقبة يتحدد بها مسارنا أو وجهتنا، بل هو جزء من أجسادنا ومن كينونتنا، ففي أكفنا خطوط وفي أناملنا خطوط، والعروق والشرايين خطوط متفرّعة تزيّن أجسادنا، والولادة والحوادث تترك فينا علامات على شاكلة الخطوط.
 
حياتنا خطّ والفلك الذي نسبح فيه خط، وعالمنا يتشكّل من نقطة لا نعرف من أين تبدأ تحديدا ونقطة لانعرف إلى أين تنتهي، هو خط سرمدي يتفرع عن خطوط أخرى بعضها أرقام وبعضها خطوط وبعضها ضوء، حتى رؤانا وتصوراتنا خطوط، تتالى فيها النقاط تتكاثف وتتقلّص وتتقارب وتتباعد، تتبدل وتتغيّر، ولا تتوقف وتشكّل في كل مرّة إيقاعات جديدة ترنو إلى الأفق.
 
كتابات وأصوات وصور، لكل وسيلته في التطلّع إلى أفقه المبين، ذلك الأفق الذي يشبه الناظر صوبه، ويتفتّح كل مرّة على وقع تمثلاته للحياة، وتتغير الزوايا والنقاط وتظل العين تعانق نفس الاتجاه، قِبلة تتعاقب في اتجاهها آفاق تنشد التماهي في أفق واحد يختزل زخم الحياة.
 
لكنّ هل جرّبت يوما أن تولّي وجهك شطر قِبلة أوجدتها لنفسك وأنت تلاحق الآفاق؟ هل خبرت معنى ان تعانق كل يوم أفقا جديدا بتجليات جديدة؟ هل راودتك فكرة لمس الأفاق والتقاط صور معها؟ هي أسئلة قد تظن للوهلة الاولى أنّها لا تحتمل الإجابة بـ"نعم" فالأمر يبدو سرياليا بعض الشيء في نظر من لا آفاق لهم، ولكن الفنان التونسي رضا ذيب قوض هذا الظن.
 
رضا ذيب فنان تونسي فرنسي، صاحب رؤية فنيّة مارقة عن السائد والمألوف، فنان مشّاء يخطّ مسيرته المتفرّدة على الدروب التي قطعها من فرنسا إلى تونس، في موسم الهجرة إلى الآفاق، "آفاق" جعل منها اسما لمعرض وثّق تجلّيات خطواته وخطوطه.
 
"آفاق" معرض فني، فرعه ثابت في باريس وأصله يتطلّع الى سماء سوسة، كانت انطلاقته في الثاني من شهر ماي الماضي ليصل رضا ذيب تونس في الثامن من شهر اوت الجاري، وشمس الهجرة تترك آثارها على وجهه الذي لم يتخلّ عن ابتسامته طيلة لقاء جمعه بصحفيين في العاصمة تونس.
 
أربعة أشهر من السير على قدميه، كان من الممكن اختزالها في سويعات يمضيها في الطائرة، لكنّ روح الفنّان  لم تعبأ لطول المسافة وإنّما كان حسبها أن تصافح نقاط الخيط الواصل بين بلدين  كان لهما أثر في نشأة رضا ذيب، فهو تونسي الأصل الذي ترعرع في فرنسا منذ الصغر.
 
جنسيتين تونسية وفرنسية، ثقافتين مختلفتين، أوجد لهما خطّا رابطا يترجم تمثّلاته الخاصة لهذين البلدين، في هجرة معاكسة لتلك التي عايشها ذات طفولة، وكأن ذلك الخطّ الذي يستدلّ به في سيره يروي تفاصيلا من حياته، وهو الذي يحتك فيه الماضي بالحاضر وتتناثر فوقه سنين العمر.
 
يولّي وجهه شطر قبلته، التي تتوشّح كل يوم بأفق جديد، ويمضي فيها دوما ولا يعرض عنها وكأنه يعانق ببصره الأفق الأعلى، ويختزن مسارات الضوء في مقلتيه، يطالع وجوها تشبهه وأخرى لا تشبهه، تلتقي معه على قاعدة الإنسانية حيث الابتسامة لغة تواصل.
 
زاده، عصا في نهايتها دبوس، ينهر بها الكلاب إذا ما ضيقت عليه الخناق في رحلة ملاحقة الآفاق، ولو أنّه ألف هذه الكلاب وصار يفقه سلوكاتها، أوليست جزءا من خطّ  يؤوي كل الكائنات الحية، ذلك الخط الذي كان شرارة لتعبيرة فنّية جعل منها الفنان التشكيلي همزة وصل بين بلدين.
 
خطّ متواصل لآفاق ينشدها رضا ذيب ويجيب بها عن سؤال ما انفك يراوده "أي معنى لأن تكون تونسيا فرنسيا؟" لتكون الإجابة بطاقات بريدية  توثق مسار آفاقه، في محطّات تجاوزت المئة،وهي آفاق يصورها رضا الذيب بواسطة هاتفه الذكي ويرسلها في الوقت الفعلي إلى المعهد الفرنسي بالاستعانات بتطبيقات الكترونية، لتكون تعبيرة عن فنية عن خطّ متواصل للآفاق.
 
في رحلة رضا ذيب إلى وطنه الأوّل، كان جسده محملا فنيا وكانت قدميه ريشة صبغ بها جسر التواصل بين فرنسا وتونس، وكان خطّ سيره التجريدي والمفتوح على آفاق كثيرة تعبيرة عن الحنين إلى الوطن الأم وفضاء للانفتاح على أفكار جديدة والتعرف على أناس آخرين احتفوا بتجربته وكان جزاؤه سيل من الابتسامات وأحيانا قوارير ماء تؤنسه في خطّ سيره.
 
 في عينيه ألق كل الابتسامات التي صادفته في طريقه إلى تونس، ألق يتوهّج وهو يتحدّث عن الأبعاد الإنسانية لمعرضه المتحرّك "آفاق" وعن تلك الروابط العصية عن التوصيف التي تنشأ بينه وبين الآخر، وعن الفن لغة للتواصل والتعبير، ليكون معرضه فضاء رمزيا ترتسم فيه هواجس المهاجرين الذي انقطعت الصلة بأوطانهم.
 
سلاحة هاتفه الذكي، ورؤية فنية مكّنته من التماهي مع الخطّ، حتى صارا واحدا يخاطب الأرض ويتفاعل مع الهواء والضوء وينتج إيماءات وحركات، يتقوقع في نقاط ويتفرّع في اخرى ليولّد أنسجة متنوعة، تحاكي مساءلة القدرات التعبيرية للخطّ والأثر الذي يتركه، هكذا يختزل رضا الذيب حكايته مع الخطّ.
 
وجوه كثيرة، صادفها حينما انساب في خط "الهروب" من فرنسا إلى إيطاليا فتونس، يتحرّك فوقه ليحتل المجال ويوجد نقطة التقاء بين الخطّ المنشود والخطّ المرسوم مسبقا ويبرز في الأثناء سؤال بشأن البعد المتحوّل للخط يجب عنه الفنان المشاء بتبيان العلاقة الجدلية بين الخطّ والجسد، عبر ورشة فنية متحرّكة تختلف فيها إيقاعات الخط مع كل خطوة جديدة.
 
 من تونس العاصمة مرورا بقرمبالية فالحمامات والنفيضة وهرقلة إلى سوسة، تتواصل رحلة فنان عابر للحدود والتصنيفات لتحتضن سوسة خطوات مشيه الأخيرة ويستقبله رواق البيرو لعرض جزء من رحلته الشيقة، لكن العرض النهائي سيتخذ شكله المكتمل في شهر سبتمبر برواق المعهد الفرنسي بتونس.
 
ولمن لا يعرف رضا الذيب هو أصيل مدينة سوسة ولد بها سنة 1966، وتخرج من مدرسة الفنون الجميلة في تولون، وهو يعيش في باريس منذ عام 1991،  كان الرسم  وسيطه المفضّل لفترة طويلة ، لكنه ومنذ خمسة عشر عامًا انغمس في مجال الأبحاث التشكيلية على قاعدة إشكالية رئيسية هي "تحرير" خط المساحة.
 
وبمعرضه المتنقّل، يثبت مرّة أخرى أنّ له أفقه المبين الذي يتطلّع إليه ويحاول كل مرة أن يلامسه وينقل طيفه في صورة يلتقطه على حط سيره، وهو الذي أوقد شرارة تفرّده بأن  أخذ مسدسا لاصقا واستخدمه عكس طريقة الاستعمال ومع هذه الأداة، لم يكن الأمر متعلقًا بإلصاق المواد، بل بالأحرى اقتلاع المادّة وتحريرها.
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.