14
محمد علي الصغير-
في الوقت الذي تتهاوى كبريات الصحف والمجلات والمنشورات بجميع اهتماماتها واختصاصاتها، تطالعنا بين الفينة والأخرى مشاريع إبداعية تبعث فينا الأمل من جديد وتوحي لنا بأن النص المطبوع ما زال قادرا على المجاهدة واكتساب جولة جديدة في صراع البقاء.
"رؤى الأدب" التي تديرها بكل اقتدار الروائية والشاعرة زينب عوني هي مجلة فصلية صادرة عن دار رؤى للنشر جاءت موشحة بالعديد من المقالات النقدية والفكرية ذات محتوى ومستوى رفيعين يعكسان قيمة هذا المحمل الورقي الذي يعاني كغيره من المحامل الورقية في بلادنا بل في العالم أسره من هجرة قارئيه وقلة داعميه.
ففي الوقت الذي فر فيه معظم الناشرين وباعثي الإصدارات الى العالم الرقمي كحل حتمي لملاحقة القراء والترويج للمحتوى، نأى الساهرون على هذا العدد الثالث من مجلة "رؤى الأدب" بأنفسهم عن الانسياق وراء هذه الموجة الرقمية العاتية وسعوا الى مواصلة البحث لهم عن قراء أوفياء ما زال يأخذهم سحر الورق وتأسرهم رائحته الزكية التي تستنهض فيهم ذكريات الماضي وتستثير فيهم موجة من الحنين الى أيام جميلة خلت.
ولعل ما جاء في افتتاحية هذا العدد الذي خط سطورها رئيس التحرير الدكتور محمود طرشونة ما يِؤكد مدى صعوبة المهمة في المحافظة على هذا الصرح الأدبي من الاندثار حيث أنه " ما كان في إمكانها (المجلة) المواظبة وانتظام الصدور لولا تفاني بعض الأقلام المشاركة في تحريرها ايمانا منها بجدواها واشعاعها ولولا اقتناع المشرفين على حظوظها، غير عابئين بغياب الدعم المادي من سلطة الاشراف". ويضيف رئيس التحرير "فلو عوملت المجلة كما يعامل بعض المطربين والمطربات مثلا، أو بعض الممثلين والسينمائيين والممثلات، لنافست أعتى المجلات في المشرق العربي ولأعطت صورة مشرقة عن الصحافة الأدبية في المغرب العربي". ويضيف الدكتور طرشونة متحسرا "ولكن أنّى لها أن تحظى بحظوتهم وترقى الى منزلتهم والزمن زمن الإسلام السياسوي وبؤر التوتر الجهادي العقيم ! انما الجهاد الحق انتاج وابتكار، وخصب وعطاء".
هذا العدد الجديد من مجلة "رؤى الأدب" جاءت كعادتها موشحة بالعديد من المقالات النقدية التي تتضمن مضامين راقية. أكثر من ثلاثين مفكرا وناقدا وكاتبا وشاعرا وروائيا من تونس ومن المغرب العربي وفلسطين ساهموا في تأثيث هذا العدد الذي تضمن في طياته قراءات نقدية متعددة يرتقي الكثير منها الى أن يكون نصوصا مرجعية للباحثين في النقد الأدبي. ومن بين ابرز هذه العناوين التي اصطفتها اسرة التحرير بإدارة لسعد حسين لتكون معروضة على واجهة المجلة نذكر "النقد الايكولوجي والأدب" للناقد والمترجم المغربي لحسن حمامة، و"شعرية الخطاب الساحر والموقف من الكتابة والعالم في تجربة الطاهر الهمامي الابداعية" للناقد الدكتور خالد الغريبي، و"الأثار الدلالية في الرواية" للدكتور الميلود حاجي"، و"حينما تلوح الرغبة كالوشم" للدكتورفتحي بن معمر، و"شعرية الزمان في قصيدة النثر" للدكتور عبد المجيد البحري.
كما تضمن هذا العدد الأنيق والتي اتسمت عملية إخراجه فنيا بالدثة والجمالية العديد من النصوص الشعرية والقراءات الأدبية في الاعمال السينمائية وحوارا مع الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة بالإضافة الى العديد من القراءات الأدبية والنقدية في مواضيع آنية تهم الواقع المعيش مثل نص "التفكير في الحبس مع خمسة فلاسفة كبار" الذي ترجمه المنتصر الحملي عن كاتبته بولين بيتي وهو في علاقة بموضوع الحجر الصحي زمن انتشار وباء كوفيد 19.
هذا العدد الثالث من "رؤى الأدب" الذي تضمنت هيئة تحريره العديد من الأسماء اللامعة في مجال الفكر والأدب على غرار سعيد يقطين والطيب هلو (المغرب) ومحمد ناصر الدين (لبنان) وعلاء عبد الهادي (مصر) وآمنة الرميلي وسلوى السعداوي ومنجية منتصر (تونس)، يعد نموذجا ناجحا للتجارب الرامية الى اعلاء راية الأدب والفكر والرقي بالذوق الإنساني في زمن غلبت عليه البلادة الفكرية وسطحية التناول للمواضيع الهامة والمصيرية. هي تجربة إبداعية على بساطتها تمثل نورا وهاجا ينبثق من رحم العتمة الفكرية التي أصبحت تغشي جانبا مهما من واقعنا الفكري والثقافي.