27
يسرى الشيخاوي-
"عبث .. إلى أين المسير ؟ بلا رفيق ولا صديق ولا حبيب.. أنا المخطئ أنا المذنب أنا الكاذب أنا المجرم أنا الساكت أنا الصامت "، مفردات تردّد صداها في مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف حيث كان ميلاد العرض ما قبل الأول لمسرحية "ذئاب منفردة".
"ذئاب منفردة" مصطلح استخباري بالأساس استقاه المخرج وليد الدغسني من معجم الإرهاب، ليشكّل له معنى جديدا يعرّي من خلاله جروح الإنسانية بعيدا عن الإرهاب في مفهومه الكلاسيكي، ويُسقط ورقة التوت عن آلام الأوطان، لآلام تشابهت وتقاطعت في السنوات الأخيرة.
والمفردات القادمة، على غير العادة، من خلف الجمهور بعيدا عن الركح، تثير فيك زوبعة من الافكار وتضعك في مواجهة معك، مع مواقفك وتوجهاتك والسبل التي تركت عليها أثر خطواتك، تجرّدك من كل زيف فتكون أنت مرآتك وصوت الحقيقة النابعة من أعماقك.
ولأن المسرح نظام نقدي، يواجه المسلمات والحتميات ويحرّك الراكد والراسب ليخلق دينماكية فكرية تمضي في سبيل التغيير ومغادرة نقطة البداية حيث تجثم النظم السياسية والاجتماعية على القلوب والعقول وتعطل الحواس والإحساس، فإن مسرحية ذئاب منفردة انطلقت من مفاهيم الغربة والاغتراب والعزلة والانعزال وما تدرّه من خطوب على الإنسانية والأوطان.
وأنت تحاول البحث عن تأويلات للعنوان، ما قبل العرض، يأخذك مصطلح الذئاب المنفردة إلى معنى واحد أوحد قادم من عالم الإرهاب، ولكن الدلالة التي قد تبدو لك واضحة للوهلة الأولى تتشطّى لتتشكّل على وقعها دلالات أخرى تحفر عميقا في الذات الإنسانية.
فردانية متوحّشة، عزلة، إغراق في الذاتية، أنانية مرضية، غربة واغتراب، دلالات ومفاهيم تقفز الواحدة تلو الاخرى على ركح مركز الفنون الدرامية بالكاف، ومع كل قفزة يتشكل معنى جديد تتبيّن من خلاله الطريبق إليك إلى الإنسان داخلك، ومع كل معنى تتشكّل مشهدية ضبابية رغم وضوحها الصارخ، فالأمر لا يتعلّق بما تراه أمامك بل بتلك الإشارات التي ما غن تقترب منها حتّى تبتعد عنك تركة وراءها سيلا من الأسئلة.
هو عرض تجريبي، يستمدّ تفاصيله من الواقع التونسي ويمتد إلى الواقع العربي، حتّى أنّك تتمثّل نفسك في تفاصيله وتتجلى أمامك حوادث عرضية شهدتها تونس من اغتيالات وهجمات ارهابية وتحالفات مصلحية نفعية وغيرها من التمظهرات المختلفة للإرهاب والترهيب.
معالجة مسرحية للمشاكل التي يعيشها المواطن في تونس في السنوات الأخيرة، يفكّكها العرض ويقدّمها في صورة مضحكة وأحيانا مبكية واحيانا أخرى يتلبس فيها الدمع بالضحكة ولكنّها في الكل الحالات دعوة إلى التفكير والتساؤل لعلّ الأجوبة المترتّبة عنها تجنّب الإنسانية والاوطان خطر الذئاب المنفردة.
وانت تتأمل حركات الممثلين على المسرح، وتتنقل بين المشاهد، وتتكيّف مع امتداد الضوء وتقلّصه وتغيّر درجاته، وتتجوّل بين المشاعر المتناقضة، تلاحق تفاصيل نصّ أراد له وليد الدغسني ألّا يكون مرتبا لأنه بالأساس تعبيرة عن فوضى تحاصر الأوطان والإنسان وعبثية تسكن في كل الزوايا.
فـ"ذئاب منفردة" لا تقدم حكاية محبوكة، وإنما فرجة قائمة على التنويع، الأمر الذي منع الملل من التسلل إلى الجمهور طيلة ساعة ونصف الساعة من العرض، عرض تتماهى فيه السينوغرافيا والأداء والإضاءة لتشكّل حالة مسرحية تستمدّ عمقها من بساطتها.
قتامة وظلام حالك، وانفاس متقطّعة تملأ أخاديد الصمت، وزفرات تتصعّد مسرعة نحو الأعلى، وأنين يعلو ويعلو حتّى يغدو صرخات تتشتت وتتشطّى حتى تأكلها العتمة على وقع موسيقى مفعمة بالرفض والغموض والحزن والأمل، بمزيج من المشاعر المتناقضة، موسيقى يغلب عليها الإيقاع فصوت "الطبلة" يعلو على صوت "القانون".
ومسرحية "ذئاب منقردة" وإن كانت حمّالة معان ودلالات تتجاوز الظاهر إلى ماهو أعمق، فإنّها على غرار مسرحية " ثورة دون كيشوت" تغيب عنها الأسماء، ستّة رجال وإمرأة بلا أسماء، تتعدّد صفاتهم وهواجسهم و يغرقون في ذاتيتهم حتّى يعم الصراع عند الالتقاء.
وأن تكون شخوص المسرحية بلا أسماء، ليس اعتباطيا، فداخل كل فرد ذئب منفرد، بيده كبح جماحه او إطلاق العنان لشروره وسمومه، منجي الورفلي ومنير الخزري ومنير العماري و نورالدين الهمامي ووليد الخضراوي وسيف الدين الشارني وشيراز العياري، أسماء ممثلين مسرحيين جسّدوا شخصيات بلا أسماء، شخصيات رسمت ملامح اتون الفوضى وسط الإغراق في الذاتية.
وفي حديثه عن العرض ما قبل الاول للمسرحية يقول المخرج والدراماتورج وليد الدغسني، إنه لا بد للمسرح أن يخرج من القوالب الجاهزة بمعنى صناعة الفرجة الشاملة بما فيها الرقص والموسيقى والمؤثرات الصوتية والإضاءة وخلق مشهدية قائمة على التنويع طيلة ساعة ونصف الساعة انتقل فيها الجمهور بين الضحة الهادفة والدعوة إلى التساؤل والتفكير.
والمسرحية وليدة بحث دام أربعة أشهر في مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف حيث تشكّلت ملامح العرض في ظرف وصفها الدغسني بالنموذجية، وكان العرض الأوّل أمام الجمهور في انتظار عروض أخرى ستشهد إضافات على مستوى النص والتنفيذ والإضاءة والصوت، وفق قوله.
أما عن فكرة المسرحية التي تنطلق من زاوية محدّدة لتتفرع إلى زوايا أخرى، يشير محدّثنا إلى أن العمل المسرحي حقل تجريبي يتوجّه إلى الجمهور، من خلال نقد بعض الظواهر،ـ تونس تعيش عدّ مشاكل على غرار بلدان أخرى، وبخلاف المفهوم المتعارف عليه للذئاب المنفردة فإن داخل كل فرد منا ذئب ينشأ في العزلة والغربة وهي مسألة خطيرة تجلّت في أولائك الذين سافروا إلة سوريا وأتوا أفعالا دموية أو أولائك الذين يفجرون أماكن متفرقة في العالم، على حدّ تعبيره.
ثم إن المواطن المضطهد فكريا ومعيشيا يمكن ان يعاني عصاب خطر قد يؤدي إلى تطّرف تختلف تجلياته من فرد إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، وكل هذه الاختلافات حاولنا أن نبسطها في مسرحية ذئاب منفردة من خلال عرض معاصر ينطوي على تنويعات جمالية، وفق قول الدغسني.
وفيما يتعلّق بحضور إمرأة واحدة في المسرحية، يقول محدّثنا إن الأمر اختيار تماما كما كان في مسرحية شياطين اخرى إذ جسّد الأدوار أربعة ممثلين وممثلة، مشيرا إلى انّ صوت المرأة في "ذئاب منفردة" كان منفردا ووحيدا في الغوغاء ولكنّه مؤثر.