دين الربّ ودين الإرهاب..

"الارهابُ لا دين له"، شعارٌ لا يُشقّ له غبار خطف الأبصار ولفت الأنظار في تونس اليوم. وهوشعار برّاق لا يتبادرنّ إلى ذهنك أنه من بنات أفكار أخ من الإخوان من الذين جزعوا لهول ما حصل وأبت أنفسهم الزكية قبول ربط دين أنزله الله  سبحانه رحمة للعالمين بالعنف والتذبيح والتقتيل والإرهاب. وهو ليس كذلك من ابتكار أخ آخر له ربما تفطن إلى فداحة ما حصل وإلى ضرورة رفع اللّبس وحماية الدين الحنيف من تداعيات جرائم من يدّعون الانتساب له. كما لم تتفتّق عنه للأسف قريحة أحد من  أولائك الذين تبرأوا مكرهين من أعمال جماعتهم ويحاولون جاهدين إبعاد بعض التهم المزمنة الملتصقة بها.

فالشعار قديم وكان قد اخترع في دوائر قريبة من المخابرات الأمريكية لمصلحة قوات الإحتلال في العراق بهدف محاولة تخفيف الضغط المتصاعد عليها نتيجة التطور الكبير للعمليات العسكرية للمقاومة العراقية التي كانت تستهدفها منتصف العقد الأول من هذا  القرن. وقد اعتمد مع الومضات الإشهارية المناسبة وبث بكثافة منقطعة النظير في القنوات التلفزية العراقية والعربية التي أنشأت خصيصا لدعم سياسات الإحتلال. 

مثّل ذلك الشعار اختراعا مذهلا وناجحا جدا في حينه إذ حقق الهدف من وضعه وهو الفصل بين المقاومة المشروعة لقوات عسكرية غازية وبين حاضنتها الشعبية وتعميق الإلتباس بين المقاومة والإرهاب. كانت الرسالة من وراءه بسيطة وشديدة الوضوح: إن كنت متدينا وبقطع النظر عن طائفتك، فإنه لا يمكنك المشاركة في أعمال المقاومة أو مساندتها أو تبريرها من وجهة نظر دينية. إذ لا أساس لتبريرك لأن دينك لا يحث على مقاومة المحتل. 

وربما ليس هنالك من احتلال أساسا وبالتالي لا وجود لمحتل، وما حدث لا يعدو أن يكون هبوب قوات صديقة لنصرة شعبك المقهور وافتكاك حريته وتخليصه من الطاغية المستبد. وبناء عليه فإن مقاومتك بخلفية وطنية وبدافع ديني لمن ستبقى مدينا له بخلاصك لأجيال متعاقبة هو عنف مجاني بل هو الإرهاب بعينه. 

فالإرهابُ لا دين له. 

ومقاومة المحتل ليست من الدين في شيء، فدينك يأمرك بالدعوة إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ولا بأس إن غرقت في الشعوذة وأكثرت من البخور أو لجأت إلى التطبير بحسب انتماءك الطائفي. وإن كان ليس لك من التقتيل والتذبيح والتنكيل بالجثث بدّ فيمنك أن تمارس هوايتك على جارك المنتمي للطائفة المخالفة لك فهو يحرّف دين رب العالمين ويدمن البدع والتعدّي على كلام الله ولا بأس من تأديبه.

أما مساندة فيالق العنف المجاني المسماة مقاومة والتي تقتل خلق الله الطيبين بدون موجب فلا تجوز، إذ لا يأباها ربك ولا يشرعها دينك السمح.

نجح الشعار كما نجحت الوحشية والقمع والعمليات الإرهابية الدموية المفتعلة ضد المواطنين البسطاء مع مناورات القائد العسكري ”بتريوس“ ومن خَلفه في منصبه في تأجيج الصراع الطائفي وفي افتكاك الحاضنة الشعبية وابعادها عن المقاومة الشرعية. وأصبح أغلب رجال الدين في العراق بشقيّهم السني والشيعي أعوانًا مخلصين للاحتلال بل أن بعضهم انتهج  بتخطيط وإشراف أمريكي سبيل الإرهاب تحت دعاوَى  الجهاد الكاذب  كمنهج في التعامل مع الطوائف والأعراق المقابلة.

عُمّم الشعار بعد أن أتى أكله على كامل منطقتنا في إطار سياسة ”فرّق تسد“ الجديدة، وإلى يومنا هذا لم تعد قوات الإحتلال هدفا للعراقيين ولا إسرائيل هدفا للعرب والمسلمين.  فذلك الدّين الجديد المبتكر يحرّم ذلك. وأصبح  الهدف السهل للهجومات الدموية المسترسلة تحت دعوى الجهاد هو العراقي والسوري والليبي البسيط في مسجده أو حسينيته أو كنيسته أو معبده أو سوقه أو مدرسته.

نجحت القوّات الغازية فيما فشلت فيه منذ عقود، فرسّخت في أذهان المسؤولين عملاء كانوا أم بسطاء وفي أذهان أنظمتهم ورعاياهم الخلط بين المقاومة الشرعية  للإحتلال والإرهاب وتمكنت بالتالي من كسر ظهر المقاومة نهائيا على طول العالم العربي وعرضه.

فقد امتد ذلك النجاح إلى بقية ”بؤر التوتر“ في العالم العربي وتمكن الأمريكان وحلفاؤهم من حشد اجماع شبه تام عالميا لمواقفهم. وحشر بذلك المقاومون في الزاوية واضطروا إلى الإختيار بين ترك السلاح والدخول في العمليات السياسية ومسارات السلام المغشوش وبين الفناء، فضاعت القضية الفلسطينية وقبرت القضية العراقية ولو إلى حين.

فالإرهاب لا دين له عندما يكون الهدف أمريكيا أو إسرائيليا أما إن كانت الأوطان هي المستهدفة من قبل القوى العظمى الإستعمارية عن طريق وكلاء محليين فسرعان ما تتغير تسميته وينزع عنه عباءة الإرهاب ويصبح جهادا لا لبس فيه… 

ولعله من سخريات القدر أن وصلت الولايات المتحدة الأمريكية القوة التي لها الفضل الأول في ابتكار ذلك الشعار إلى حدّ إعلان الجهاد عمليا على المستوى العالمي بعد أن تولّت وظيفة ”أمير المؤمنين“ بداية هذا القرن الجديد وأصبح لها أنصار ومهاجرون يطبقون شرع الربّ الذي اصطفته لهم . فاستغلت جهل عشرات آلاف المسلمين بدينهم بل بإنسانيتهم لكي تدفع بهم إلى الانخراط في المليشيات المسلحة التي كونتها لتغيير خارطة العالم العربي. فإرتكبت باسمهم عشرات آلاف المذابح في ”حروب إسلاموية حديثة“ في الدول المستعصية كليبيا وسوريا للقضاء عليها نهائيا كدول وكأوطان وكعدوّة شرسة للكيان الصهيوني بغية إخضاعها وتقسيمها والإستيلاء على ثوراتها وثرواتها بعد فورة ما يسمى بالربيع العربي خلال سنة 2011.

تمّ لها ذلك عن طريق عملائها الذين جمعتهم صلب الإتحاد العالمي للعلماء المسلمين المرتبط بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وقد أوعزت لهم بمساندة تلك الدعوة وحشد الدعم لها بين قطعان الجهلة الذين تفيض بهم أوطاننا تطبيقا لاستراتيجيتها المتعلقة بالشرق الأوسط الجديد. وطبعا لم تعتبر تلك القوة الغاشمة الاستعمارية ما قامت به تلك الجحافل المتعطشة للدماء إرهابا بل قدمته كمظهر من مظاهر القتال في سبيل الحرية والديمقراطية.

فبعد أن ساند الأمريكان وحلفاؤهم فروع التنظيم في كافة أنحاء العالم العربي ومكّنوها من التمويلات الضرورية عن طريق القواعد العسكرية النفطية التابعة لهم من أخذ الأسبقية على الأحزاب الديمقراطية الضعيفة وربح الانتخابات التي تم إجراؤها في تلك الفترة. وبعد أن استقر حلفاؤهم الجدد في الحكم عملوا بذكاء على استغلال تلك الدعوة للجهاد خير استغلال لإرسال جحافل من القتلة والسفاحين لمختلف الدول المعادية لهم لتحطيمها وتدمير شعوبها تحت دعاوى الجهاد الكاذبة.

عندها لم يعد للشعار من معنى واختفى نهائيا من الساحة بنفس السرعة التي برز بها فجميع العمليات الإرهابية التي كانت تتم تحت غطاء الجهاد المزعوم كانت مشروعة ولم يكن من المستحسن ربطها بالإرهاب. وإلا فهل يعقل أن يدعم الغرب الإنساني المتحضر تنظيمات إرهابية لا إنسانية بالمال والسلاح والإعلام والسياسة ؟

فجأة، عاد الشعار ليستعمل من جديد هذه الأيام في تونس. وتونس لم تكن بمنأى عن السياق العالمي ومثلت الدولة العربية التي أرسلت العدد الأكبر من الإرهابيين اللطفاء تحت مسمى ”مقاتلين من أجل الحرية“. وأولائك الأوغاد لم ينزل عليهم وحي من السماء لكي يتجمعوا ويتوجهوا أين أردت الإمبراطورية إرسالهم ولا بد أن هنالك محليا جهة ما أرسلتهم.

يطرح استعمال ذلك الشعار العبقري في تونس إشكالياتان رئيسيتان على الأقل: أولهما تتعلق بهوية من يستعمله وثانيهما تتعلق بأهداف من يفعل ذلك.

ما يلاحظ أولا أن من أطنب في استعمال ذلك الشعار جهات قريبة من طرف سياسي معين وهو حزب حركة النهضة الذي وهنا المفارقة لم يتعرض  للعنف الممنهج المسمى إرهابا من أية جهة كانت خلافا للحالة الأمريكية. حيث لجأ الأمريكان لتلك المناورة لتعرض قواتهم الغازية لأعمال مقاومة استهدفت إخراجها من العراق ونتج عنها آلاف الخسائر في قواتها بين قتلى وجرحى ومعاقين. 

ما يلاحظ ثانيا وهو الأمر الغريب في الموضوع برمته أنّ من استورد ذلك الشعار الأخّاذ متهم هو ذاته بتوفير البيئة المناسبة لنمو الإرهاب وانتشاره وتطاله حتى بعض التهم بالإرهاب. فقد مثل على الدوام الطرف المتهم من قبل قوى سياسية مختلفة باستعماله ورعايته والإستفادة منه تحت غطاء الدين قبل الثورة وبعدها.

فذلك الطرف وخلافا للحالة الأمريكية لم يكن يهدف من وراء الايعاز باستغلال ذلك الشعار التخلص من ارهاب ما مسلط عليه أودفع صولة صائل والتخفيف من خسائره بمحاولة بتسفيه الأساس العقائدي للأعمال الإرهابية التي تطاله وابعاد الحواضن الشعبية عنها. وهو لم يكن يهدف حتى إلى إقناع الشعب الكريم القريب من توجهه بعدم مساندة العمليات الإرهابية بصفة عامة.

ولم يكن الهدف من وراء الشعار وتلك مفارقة كبرى دفع تهمة الإرهاب عن الدين الإسلامي الحنيف وهو الأمر الذي كان من المفترض منطقيا أن يستميت من أجله أي تنظيم عقائدي يتجار بالمشاعر الدينية للبسطاء ويدعي الدفاع عن الإسلام. 

كان الهدف الوحيد ابعاد تهمة التواطئ مع الإرهاب الذي يطال تونس عنه وعن كل الأطراف القريبة منه التي تستغل الدين كأصل تجاري في الحياة السياسية أو تساند الإرهاب في مناطق مختلفة من العالم ولم ينفضح تورطها فيه بعد.

وفي المحصلة النهائية لا تعدو أن تتجاوز الغاية من استيراد هذا الشعار محاولة إبعاد تهمة الإرهاب عن حركة بعينها ليس بلفظه والتبرأ منه ودعوة أنصارها للابتعاد عنه وهو أمر غير ممكن عمليا فبعض قيادييها الكبار متورطين في إرسال عدد كبير من الأنفار للتمرس في الإرهاب وإتقانه. بل بإدعاء أن الإرهاب الذي ضرب تونس ارهاب لا ديني بمعنى لا يمارسه متدينون وبأنه أصلا عمل مخابراتي وعلى كل نبع من سياسات خاطئة حاربت الدين منذ الاستقلال. وحاشى لله من أن يساند الأتقياء القريبون من الربّ مسألة لا علاقة للدين بها، فالحركة أو بعض قيادتها (لكي نكون منصفين ولا نتجنى على البسطاء المؤمنين بوجود مشروع إسلام سياسي سلمي) لا تساند الإرهاب إلا متى قررت أنه مطابق للشريعة وهو لا يطابقها حاليا في تونس وإن طابقها في ليبيا أو سوريا والعراق. 

ولكن طالما أن الشريعة في نظرها متحركة في إتجاه معين يخدم مصالحها حسب الحاجة ولا تستقر على حال بوصفها سلعة تجارية مربحة ومجلبة للحرفاء من البسطاء والسذج. وطالما أن التنظيم لا يساند الإرهاب حاليا وعلنيا في تونس لأسباب تكتيكية محضة نتيجة تفاوت موازين القوى بعد انقلابها إثر خسارة التنظيم لحكم مصر، فإنه من الطبيعي أن يتم التصريح بأن الإرهاب الذي نتعرض له في تونس هو إرهاب لا دين له أو أنه ليس من الدين في شيء.

فالتنظيم كحركة متسترة بالدين واقع في مشكلة عويصة إذ لا يقدر على إلغاء الجهاد المزعوم من حيث كونه إرهابا لأنه في الواقع لا يعتبره إرهابا. وهو لا يقدر في نفس الوقت مواصلة إعلان مساندته له في تونس نظرا لحال الوقت والظروف رغم أنه متهم بمساندته ورعاية عناصره في تونس وخارجها فترة حكمه للبلد.

وحيث أن الأمر على ما هو عليه، فإنه براء منه ظرفيا واضطرارا ولا يهم عندها إن تضرر الدين الإسلامي أو ساءت سمعته فهو ليس إلا دين الربّ وما على الرب إلا أن يحميه.

فعوض الدفاع عن الدين ومحاربة من يجيّر بعض النصوص الفقهية المتلبسة عليه لتحليل سفك الدماء وعوض نفي دعوته إلى العنف والإرهاب كما تريد بعض الأطراف المنغمسة في الدماء أن تفهم العالم بأسره. وعوض السعي إلى تبيان أن الدين دين تسامح وإخاء وسلام وليس دين إرهاب،  تغفل هذه الأطراف ذلك المعطى ولا تعير له اهتماما ولكأنها تعتبر الإرهاب وسيلة شرعية ومشروعة وفق فهمها للدين بشرط أن لا تقتضي الظروف إخفاء الرأس اتقاء للسلامة.

وكأنها تريد أن تقول لأنصارها بأنه والحال أن الإرهاب/ الجهاد الذي لحق وطننا لم ينجح في تغيير المعادلة فلا بأس إذن من إدعاء عدم مساندته انتظارا لأيام أجمل.

هذا خلاصة ما يقال وما يفهم من مواقف الحركة المتضاربة كلما ما تعلق الأمر بأعمال إرهابية وحسب موقع حدوثها وظروف البلد الذي وقعت فيه.

فلا يمكن لذي عقل وبصيرة  تصديق أن قتل الأبرياء في ليبيا وسوريا والعراق محض جهاد وليس إرهابا، بينما تهاجم  نفس الجحافل  التي ارتكبته تونس وبنفس المرجعية بعمليات إرهابية محاولة غزوها واحتلالها. 

فمن يساند الارهابيين يساند ارهابهم ومن يساند ارهابهم في مكان ما على الخارطة العالمية لا يمكن أن يدعي التبرأ منه في مكان آخر.

فالارهاب لا دين له ولكن الإرهاب له ” متدينون“ أو هكذا يصنفون أنفسهم.

ومع أن الإرهاب ليس حكرا على معتنقي الديانة الإسلامية ويشترك فيه مع الديانات الأخرى ولو اختلفت نسب المشاركة. حيث أن "إرهاب الدولة" المرتبط بدرجة أساسية بالحركة الصهيونية أوبالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية هو ارهاب بجذور دينية لا تخطئها العين إلا أنك حيث ما وليت وجهك على هذا الكوكب لن تجد إلا نادرا رقعة من الأرض تعيش في سلام وأمان وكان المسلمون فيها موجودون ولو كأقلية…

ولن تجد كذلك رقعة من الأرض تشهد من المجازر البشعة والقتل الجماعي ما تشمئز منه الطبيعة البشرية إلا وكان المتدينون المتأسلمون حاضرون.

ونحن وإن سلمنا بصحة تلك المقولة العبقرية ”الإرهاب لا دين له“  فيما يتعلق بعدم تفرد دين معين بوصمة الإرهاب مع تمسكنا في المقابل بالإدعاء بأن الأرهاب  له قطعا متدينون يدعون الإسلام،  فإنه لا يمكننا كذلك إنكار التفاوت الواضح في اللجوء إلى سلاح الإرهاب بين معتنقي مختلف الديانات.

فهؤلاء المتدينون أو المتسترون بالدين والمتاجرون به في حالة الديانة الإسلامية يتميزون بارتكابهم باسم الرب وبغطاء ديني أبشع المجازر وأشنع الجرائم من صنف تلك التي يشيب لها الولدان ويهتز لها عرش الرحمان.

فحيث ما بحثت وحيث ما نظرت وما عدى بعض الحالات الشاذة، لن تجد على وجه البسيطة مجموعات ضخمة لها استعداد طبيعي لسفك الدماء وارتكاب أبشع الجرائم وهي مقتنعة تمام الإقتناع بأن الدين أمرها بفعل ذلك وسيجازيها عليه إن لم تكن تلك المجموعات مطمئنة لحسن عاقبتها ومعتمدة في ذلك على نصوص من الشريعة الإسلامية.

فالإرهاب أصبح للأسف مرتبط بطريقة أو بأخرى بديننا الإسلامي الحنيف وبثقافتنا وبتاريخنا. ولا تغرنّكم المواقف الحالية للمواطنين العاديين المنددة بالإرهاب فلو لم نكتو بناره في بلداننا العربية وفي تونس خصوصا لكنا قطعا من أكبر المساندين له.

فبقطع النظر عن تأثير الجماعات الدينية والدعوية على الشعب الكريم وبعيدا عنها، فنحن لم نخرج بعد عموما كشعب من حلم المقاومة الجميل الذي جعلنا نخطئ ونخلط بينها وبين الإرهاب.  فنحن شعب يقدس مقاومة الاحتلال وتربينا عليها. لذلك سهل التباس الأمر علينا فخلطنا بين المقاومة الوطنية النزيهة والشريفة وبين الارهاب، ولا زال بعضنا يخلط.

وربما كان لا بد لنا من أن نخطئ لكي نتعلم، إذ لم تكن لنا سابق معرفة بالإرهاب فلم نكتو بناره من قبل. فاختلطت المفاهيم في أذهاننا خاصة وأن العمليات الإرهابية التي تمت من قبل في تونس مثلا لم تأخذ حظها من النقاش والتحليل بل غلب على الموضوع التعتيم والانكار وتزوير الحقائق.

فالإعلام التونسي قبل الثورة متأثرا في ذلك بتوجهات النظام السياسي آنذاك، لم يكن يتحدث عن الجماعات الإسلامية المقاتلة في الجزائر أثناء العشرية السوداء بل عن مجموعات إرهابية ولا عن حزب الله في جنوب لبنان بل عن المقاومة الوطنية اللبنانية. فكيف كان للمواطن  أن يفرق بين الإرهاب الأعمى وبين مقاومة الاحتلال ؟

علينا أن لا ننسى بأن الأفغان العرب وهم الآباء الشرعيون لقاعدة الجهاد ولداعش يعتبرون إلى اليوم في أذهان أغلب هذه الشعوب العربية الأمية مقاومين وأبطال قارعوا الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وأخرجوه منها وقاوموا الغزو الأمريكي لنفس البلد وأذاقوه الويلات.

ثم لماذا نواصل إخفاء الحقيقة ؟ 

ألم تبتهج غالبيتنا بالضربة الساحقة التي تلقتها الولايات المتحدة الأمريكية  في 11 سبتمبر معتبرين إياها ضربة مباركة لعدو أمريكي غاشم قتل الأطفال والنساء والشيوخ بمئات الآلاف في العراق ؟

ألم يعتبرها البعض ومنهم أنت وأنا وغيرنا كثيرون حينها انتقاما عادلا لشهداء ملجأ العامرية ولكافة شهداء العراق ؟ ألم نعتبرها انتقاما لأشقائنا الفلسطيين واللبنانيين ونتيجة طبيعية لمساندة الأمريكان للعدو الصهيوني الغاشم ؟ 

ما الذي تغير ؟

الذي تغير أننا اكتشفنا أن عقدة الانتقام غلبت عندها مكامن الانسانية فينا. وأننا حقيقة لم تتح لنا الفرصة يوما لكي نفرق بين المقاومة والإرهاب ولا بين حق الشعوب في تقرير مصيرها والتخلص من الاستعمار وبين الارهاب الأعمى وهو إرهاب لا يطال إلا الأبرياء. فنحن لا نفرق حتى  بين ارهاب الدول ومصالح الامبراطوريات وبين شعوب تلك الدول.

الذي تغير أن الإرهاب كشف لنا عن وجهه الحقيقي وطرق أبوابنا وأضحى يهددنا ويهدد أبنائنا…

الذي تغير فعلا أن رؤيتنا للمقاومة تغيرت وأن بعضنا أخطأ (اليساريون والقوميون خصوصا وعامة الشعب إجمالا)  بمساندة عملاء للاستعمار الجديد مع أننا كنا نعرف أنهم عملاء (بن لادن والأفغان العرب مثالا).

فلم نكن ننظر بعين الرضاء لأعمالهم إلا لأننا كنا نعتبرهم مقاومين. وحتى القسوة والوحشية التي تفنن في إظهارها أبو مصعب الزرقاوي مثلا في التنكيل بمن وقعت عليه يداه كانت قبلت من قبلنا  في إطار مقارعة العدو الغاشم في العراق المحتل وضربه مهما كانت الوسائل.

ثبت لنا اليوم أن لا علاقة لأولائك المجرمين المتسترين بالدين لا بالمقاومة ولا باسترجاع حقوق الشعوب.  وأنهم كانوا يخدمون مخططات استعمارية غربية تهدف إلى السيطرة على بلداننا وعلى ثرواتها وخلق المبرر للتدخل أو البقاء فيها. وأنه وفي جميع الأحوال لا يمكن تشبيههم لا بالفلسطيين ولا باللبنانيين ولا بالعراقيين الذين يدافعون عن أوطانهم.

فمن يدافع عن وطنه لا يحرق أخضره مع يابسه ولا ينكل بشعبه ولا يقدمه لقمة سائغة للإمبراطوريات الجائعة.

اكتشفنا أخيرا لما طالنا عبثهم، أنهم ليسوا بمقاومين ولا يدافعون عن قضية عادلة وأنهم ليسوا بمتدينين بل أن أغلبهم خرجوا من رحم عقدنا وتخلفنا وجهلنا. وأن أشرسهم لا يمثلون سوى عصارة سجوننا وأوكار دعارتنا وأنهم ليسوا سوى سقط متاع سلطوا على ديننا وعلى حضارتنا لتدميرهما من الداخل.

لقد أضر هؤلاء العملاء بالديانة الإسلامية العظيمة التي يخرج المسلمون منها اليوم أفواجا. واكتشف الجميع متأخرا بأنهم مجرد مرتزقة يطبقون مخططات قوى استعمارية كبرى متفوقة علينا ثقافيا وحضاريا اكتشفت مكامن الخلل في ثقافاتنا وفي عقيدة بعضنا قبل أن نتوصل نحن لها واستغلت ذلك لتدمير أوطاننا.

لا يمكن فعلا أن يقبل إنسان سويّ الإنتماء لديانة تدعو إلى الذبح والقتل وسفك الدماء والتنكيل بالجثث وترويع الآمنين وتخريب الأوطان. 

والحقيقة أن الخطأ خطأنا قبل أن يكون خطأ الآخرين، فقد عبث فقهاء المسلمين بهذا الدين على مر العصور لنصل في عصرنا الحالي إلى نتيجة واحدة حيث العبرة بالخواتيم وهي  أن ديننا الحنيف أصبح دين إرهاب.

فالإرهاب له دين واحد يغذيه اليوم وهو الدين الإسلامي وله ملة واحدة تخدمه وهي للأسف الملة التي ننتمي لها. ولا ينفع لدحض ذلك لا الشعارات ولا المخاتلات والمهاترات ولا النفي والإنكار.

لا حل لنا سوى في  العمل على نفض الغبار عنه وتخليصه من الشوائب ومن الكذب والتلفيق والتزوير الذي تراكم لقرون حتى أصبح من المسلمات.

لا بد من مراجعات جذرية لفهمنا للدين ولفهم الآخرين له،. ديننا كما نفهمه وكما فهمه أجداننا من قبلنا دين أناس أسوياء ينظم العلافة الفردية للعبد بخالقه ولا يدعو إلى الإجرام. 

تاريخيا كان لعلاقته بالسياسة أسوء التأثيرات على صيرورته وهي التي جعلته ينحو ذلك النحو أو جعلتهم ينحرفون به نحو ذلك المصير.

لا زال بعضنا يكابر ولا زال بعضنا لم يصل إلى هذا الاستنتاج ولا زال بعضنا يساند الإرهاب سرا على الأقل. لا زالوا يعتبرون خطأ بأن الإسلام يحث على الإرهاب تحت مسمى الجهاد وهو منه براء وإن اعتمدوا ذلك الشعار البراق ”الإرهاب لا دين له“. 

وبدون السقوط في خطأ التعميم، فلا إرهابيين غيرهم ما لم يتغيروا ولن يتغيروا. فدين الرب ليس بدينهم ولا دين لهم غير الإرهاب وإن أنكروا.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.