لعل أخطر ما ترتب عن المبادرة الرئاسية من آثار سلبية واضحة…
لعل أخطر ما ترتب عن المبادرة الرئاسية من آثار سلبية واضحة، إجهازها على أهم آليتين تميزان النظام الديمقراطي، وهما آلية "الانتخابات" وآلية "الأحزاب السياسية"، فأما بالنسبة للأولى فكل متأمل سيلاحظ دون صعوبة أن آخر ما جرى أخذه بعين النظر ما أسفرت عنه انتخابات أكتوبر 2014 من نتائج، بل لقد اعتبر مجلس نواب الشعب وكأنه 218 نائبا انتخبوا أفرادا لا أعضاء في قوائم حزبية في الغالب، وأنهم يمثلون أنفسهم لا مجموعة كتل نيابية تمثل أحزابا بعينها دون غيرها، وأما بالنسبة للثانية فقد بدا أن هناك رغبة جامحة مستبطنة لدى أصحاب القرار في تشكيل الحكومة في تجاوز الخارطة الحزبية التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، فتحت شعار الوحدة الوطنية أصبح الحزب الذي أحرز سبعين مقعدا تزيد قليلا أو تنقص قليلا، لا يختلف في شيء أمام حزب لم يحرز أي مقعد أو نال مقعدا يتيما ما كان له أن يحصل عليه لو نظام "أكبر البواقي" المتبع في بلادنا بعد ثورتها المجيدة.
إلى حد اليوم، لم يتوصل الفكر الإنساني عبر تاريخه المديد، إلى اختراع نظام سياسي أفضل من النظام الديمقراطي التعددي الضامن للحريات وحقوق الإنسان، وقوام هذا النظام وجود أحزاب سياسية تمثل مختلف الاتجاهات والبرامج والعقائد والايديولوجيات والشخصيات المؤثرة في المجتمع، تتنافس فيما بينها تنافسا انتخابيا سلميا نزيها على نيل ثقة الشعب وتحقيق سيادته في الداخل والخارج، من خلال مؤسسات حكم قابلة للتجدد بعد كل ولاية انتخابية، وعبر التداول السلمي الحضاري على السلطة ومراكز القرار.
وما يمكن استخلاصه والتأكيد عليه، أنه لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي حقيقي إلا بوجود أحزاب سياسية فاعلة مكلفة من قبل الشعب ومراقبة ومحاسبة من قبله، فليس هناك نظام ديمقراطي حقيقي في العالم استطاع التخلص من الحزبية السياسية، كما لا يمكن أيضا إقامة نظام ديمقراطي حقيقي إلا بالاعتماد على آلية "الانتخابات" النزيهة والشفافة والتعددية، التي تمنح الحكم لحزب أو ائتلاف من الأحزاب، يقوم الشعب بتقييم أدائه والحكم عليه أو له عبر صناديق الاقتراع.
لقد كان المبرر لإزاحة حكومة الترويكا، وتعويضها بحكومة الحوار الوطني المؤقتة، أن انتخابات أكتوبر 2011، كانت بعنوان انتخابات خاصة أجريت لأجل انتخاب مجلس وطني تأسيسي وظيفته كتابة دستور جديد للبلاد، لا ممارسة الحكم، وكان هذا في حينها مبررا مقبولا من وجهة النظر القانونية والسياسية، لكن الاعتماد على حجج مماثلة بعد المصادقة على دستور الجمهورية الثانية لا يجد ذات القبول، ولن يفهم إلا في إطار سعي "سياسوي" ضيق الأفق من شأنه إلحاق أكبر الأذى بأسس النظام الديمقراطي الناشئ، معمقا أزمة الثقة الشعبية في الطبقة السياسية وجدوى الانتقال الديمقراطي، ومقويا خطاب السعاة إلى إرجاع الطائر التونسي إلى السرب العربي.
يؤمن رئيس الجمهورية لأنه منتخب من قبل الشعب مباشرة بأنه مسؤول أمام الشعب وسيحاسب من قبله عند انتهاء ولايته، سواء قرر الترشح مجددا أو لم قرر خلاف ذلك، غير أن دستور الجمهورية الثانية جعل من النظام السياسي نظاما برلمانيا معدلا يقوم فيه مجلس الشعب المنتخب والحكومة المنبثقة عنه بالدور الأساسي في قيادة مؤسسات الحكم والدولة، وعلى الرغم من أن الصراع بين رئيس الجمهورية وبقية مؤسسات الحكم، البرلمان ورئيس الحكومة، لم يظهر بشكل صريح وعلني، إلا أن رئيس الجمهورية أظهر من الأمارات والمبادرات ما يثبت أن تفسيره الخاص للدستور يجعل النظام في نظره رئاسيا معدلا لا برلمانيا، وهو ميال فيما يبدو إلى جعله رئاسيا محضا.
والبين أن رئيس الجمهورية يستعين في اعتماده تفسيره الخاص هذا على مسألتين واقعيتين، أولهما الأزمة القيادية التي يرزح تحت نيرها الحزب الأول "حركة نداء تونس" التي فقدت أي مؤسسة فاعلة قادرة على اتخاذ قرار أو مخالفة أمر، وثانيهما الأزمة النفسية التي يعيشها الحزب الثاني حركة النهضة أسيرة هواجسها ومخاوف قيادتها من انقلاب الأمر وعودتها إلى مواجهة حاسمة مع نظام الحكم، وهو ما يجعلها قابلة لكل أمر حتى وإن كان مخالفا لطبيعة الأعراف والتقاليد الديمقراطية، ومستعدة لتبرير ذلك لقواعدها حرصا على استقرار البلاد ومصالحها العليا، وهو ما أدركته رئاسة الجمهورية مبكرا واستغلته أحسن استغلال لتطويع "النهضويين" وإجبارهم على قبول ما لم يقبلوه من قبل بحجة أنه "دنية في دينهم".
وما يهمني التنبيه إليه، في خاتمة هذا المقال، أنه إذا لم تعد نتائج الانتخابات هي التي تفرز حكام البلاد، وإذا عمقت أزمة الأحزاب خصوصا الرئيسية منها، وأضحت مؤسسات الحكم المسقطة وتوابعها من مؤسسات الدولة الخاضعة هي المتحكم الفعلي في المشهد السياسي، فكيف يمكن لديمقراطية ناشئة أن تصنع أعرافا سليمة أو تبني قواعد لعبة متينة، فإذا ما أضفنا إلى كل ذلك دور المافيات وجماعات الفساد والجريمة المنظمة المخترقة جزئيا أو كليا للمشهد الحزبي والمدني والإعلامي، بمقدورنا حينها أن نتصور حجم التحديات التي يواجهها مشروعنا الديمقراطي ومسارنا الانتقالي.
ليس لدي أي نية للتشكيك في نوايا رئيس الجمهورية الطيبة عندما أطلق مبادرته الرئاسية من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن لدي كل يقين في أن من كلفهم بنقل المبادرة إلى حقيقة واقعية لم تكن لديهم لا النية الصادقة ولا الكفاءة الكافية لجعلها بلا آثار سلبية خطيرة..بل لقد جعلوا آثارها السلبية هذه غالبة وسيحملون مسؤولية ذلك لمن حملهم الأمانة عندما تبلغ الأزمة ذروتها خلال الأشهر القادمة.
*وزير سابق وقيادي في حركة نداء تونس