9
يسرى الشيخاوي-
شارب الخمر يصحو من سكره وسامع "دندري" طول العرض سكران، كلمات ربّما تلخّص تلك النشوة والنيرفانا التي في سرت في الجمهور الحاضر في مسرح الجهات بمدينة الثقافة لمواكبة عروض المسابقة الرسمية لأيام قرطاج الموسيقية.
و"دندري" عرض لمحمّد الخناوي، يستمدّ تسميته من شراب "الدندري" أو شراب العجم وهو مزيج بين "الدرع" والحليب والسكّر، شراب وماهو بشراب عادي بل هو عادة متأصلة لدى أهل السطمبالي يعدّونه في اليوم الأوّل لزيارة الولي الصالح.
ولأن الدندري شراب لا يخلو من قدسية لا يعدّه إلا "المعلم، فإن عرض دندري أيضا من طينة هذا الشراب حلو، موسيقاه مسكرة لأنّها شيء من رحم تونس العتيقة، هي موسيقى خلقت صرخات الظلم والضيم ألحانها وصبغت أنفاس الحرّية إيقاعاتها.
تلك الحركة الفنية التي نمت وأينعت في الهامش، هناك حيث الابتسامة سلاح واحد في مواجهة الهموم، اليوم تزيّن ملامح المركز الشاحبة وهي مادة موسيقية تغري بالبحث فيها وابتكار أنماط موسيقية جديدة لا تخضع للتصنيفات.
موسيقى السطمبالي ليست فقط إيقاعات تهتز لها الاجساج فتنعتق الأرواح لتسمو حيث الصفاء الذهني، وإنّما أيضا وساطة إيقاعية علاجيّة تكون فيها الأرواح محور جلسات علاجية قادمة من عمق الثقافة الافريقية، هذه الموسيقي ذات الأبعاد الروحية أساس لمشروع موسيقي بعث فيه عازف الباتري محمد الخشناوي الروح.
بصمة إيقاعية تونسية إفريقية، أضفى عليها الخشناوي بعد سنوات من البحث مسحة من الروك والجاز والأنغام المبتكرة ليرسم معالم مدوّنة موسيقية عصرية تمتد في الماضي وتعانق الحاضر وتتطلّع إلى المستقبل دون المسّ من جمالية التراث الموسيقي.
وعلى الركح تتزاحم الإيقاعات والأنغام وتتسلل إلى الآذان حتّى تشعر كأنّك مسكون بهوس التحرر من المادة والانعتاق من الواقع وكل ما يلفّه من سواد وهموم لتكون الموسيقى ملاذا وفسحة للانتشاء، سحرا خالصا يجعل جسدك الراقص أسيرا لأنين القمبري وصرخات الشقاشق وما بينهما من إيقاعات قادمة من الغرب.
طابع موسيقي خاص بدندري أوجده ذلك التناغم بين العازفين الذين يتقاسمون الشغف بموسيقى السطمبالي في صورتها الأولى، بصمة إيقاعية زيّنتها الشقاشق وزادها الدرامز ألقا، وهويّة لحنية تبدأ من القمبري والقوقاي لتنتهي إلى الغيتار والكلافيي.
سيل من "النوب" لكل وليّ نوبته التي تختلف عن سواها، وفيما نغمات القمبري تحيط نفسها بهالة من الشجن والرقة تتعالى قرقعة "الشقاشق" ويعلو صخب الدرامز ليؤنسه حماس الغيتار والكلافيي ويصدح بلحسن ميهوب ومحمد الجويني بأغان تتضمّن كلمات باللهجة التونسية وكلمات أخرى قد لا تفهمها بعضها موسوم بلهجة افريقية وبعضها الآخر "عجمي".
في ذروة العصف الموسيقي لمجموعة دندري لن تهتم بالكلمات ولن تتوقف عن هز رأسك والتمايل على وقع الألحان والكلمات وإيقاعات الأيادي والأرجل وأنفاس الحضور، ولن تتوانى عن ترديد بعض الكلمات من أغاني "نانا عيشة"، "بابا بحري"، "سيدي عبد القادر" و"بوسعدية".
في الواقع أنت لا تستمع إلى موسيقى ترقص على ايقاعتها وإنّما تعيش تجرة حسية وجودية في عالم مهما باح بأسراره يظل غامضا، فكيف لغمغمات العبيد وصوت انكسار الأصفاد أن يكونا طريقا إلى السماء وإلى الشفاء.
حالة من الانسجام الروحي سرت بين الجمهور الذي اهتزت أجساده على وقع دندري وبين القفزة والقفزة تتعانق الأكف ناشدة السكينة في عالم يختلط فيه أنين الأرواح برنين الحديد، وتبعث موسيقى السطمبالي في حلتها الجديدة الراحة في النفوس.