بعد أن نجح تنظيم الدولة الإسلامية – المعروف بداعش – في السيطرة على عدة مناطق في العراق وسوريا، وإثر إعلان الخلافة ومبايعة أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم، خليفة للمسلمين في كلّ مكان، هرع جهابذة التحليل الأمني والسياسي في تحذير التونسيين من ان هذا التنظيم موجود على حدودنا وبات قاب قوسين أو أدنى من دخول أراضينا.

ولكن ما فات هؤلاء "الخبراء الأمنيين" و"المحللين السياسيين" ان داعش موجود أصلاً في وطننا وفي بيوتنا بل وفي نفوس عدد كبير منا.

لا يمرّ يوم في تونس دون أن تقابل على الأقل داعشياً واحداً، أحياناً يكون في لباسه الحقيقي وفي معظم الأوقات يكون مرتدياً لباس الحداثة.

وإذا دققنا النظر، سنجد أن "الداعشيين" موجودون في كافة تفاصيل حياتنا الصغيرة والكبيرة وهم يخربون بلادنا شيئاً فشيئاً وخطرهم يتجاوز خطر الجماعات المتشددة كونهم يساهمون بطريقة أو بأخرى في انتشار الفكر المتطرّف عندما تكون لهم يد في تخريب البلاد ومنع نموها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، الموظفون في الإدارات ألا يستحقون صفة داعشيين؟ أولئك الذين يذهبون كلّ صباح إلى وظائفهم مكشرين يلعنون يومهم ويعملون بكلّ ما أوتوا من طاقة على تعطيل مصالح المواطن بل وأكثر من ذلك يصرخون في وجهه إذا وجّه لهم ملاحظة.

أضف إلى ذلك تلقي الرشاوى لتمرير المعاملات وعرقلة معاملة من يرفض الدفع وإن كانت ملفه مكتملاً وتحويل حياته إلى جحيم عبر جعله يجيء ويذهب عشرات المرات دون جدوى.

كذلك سائقو التاكسي، الذين يرفضون أن تصعد في سيارتهم بحجة أن المكان الذي انت متوجه إليه قريب أو "ليس على طريقهم"، وإن صعدت فسيلقنونك درساً كونك تسببت في خسارتهم المادية. هذا دون ان نتحدث عن عمليات النصب والاحتيال التي يقومون بها خصوصاً في تعاملهم من السائحين.

وإن كانت هذه الأمثلة بسيطة، فإن "الداعشية" متغلغلة أيضاً في الأحزاب السياسية بمختلف ألوانها وشعاراتها، وخاصة ذات اللباس الديمقراطي والتقدمي منها، من ذلك ان رئيس الحزب لا يتغير ومن يحاول نقده يجد نفسه خارج السرب ويتمّ إقصاؤه، علاوة عن تدافعهم وتراكضهم وراء الكراسي والمناصب دون الاهتمام لمشاغل الناس وهمومهم. 

الأمر الذي أدى إلى إعماء بصيرتهم وتشتتهم بطريقة مكّنت الأحزاب الانتهازية من خلق استقطاب ثنائي بينهما وجعلت المواطنين أمام خيارين كلاهما مرّ.

ولا يمكن أن نتحدث عن الداعشية دون ان نتذكر بعض الإضرابات التي جاءت في غير وقتها وساهمت بشكل كبير في تردي أوضاع البلاد. وإن كنا نساند المطالب المحقة للعمال والموظفين والمعلمين كان على هؤلاء ان يدركوا ان مصلحة الوطن هي العليا وان يضحوا ولو قليلاً خصوصاً واننا لا نزال نعيش مخاض الثورة وتونس تحتاج مساهمة الجميع لتنهض من جديد على أسس قوية من أجل الوصول إلى دولة ديمقراطية مدنية حديثة.

وإن تحصّل الكثيرون على حقوقهم التي يستحقونها فهذا لا ينفي ان بعض الإضرابات كانت مضرة أكثر منها نافعة نذكر منها إضراب عملة النظافة الذين تضاعف دخلهم الشهري إلا انهم أصروا على الإضراب مما أدى إلى تراكم النفايات وانتشار البعوض والروائح الكريهة في موسم سياحي تحتاج تونس إلى نجاحه في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها.

ومن مظاهر الداعشية كذلك إغراق البلاد في ديون خارجية واتخاذ قرارات اقتصادية تمسّ بشكل مباشر على قدرة المواطن البسيط والفئات الضعيفة التي لم تعد قادرة على توفير لقمة يومها وذلك في ظلّ حكومة "تكنوقراط" نجحت في إلهاء الرأي العام بصور "السيلفي" وبأبسط تحركات بعض أعضائها الذين أصبحوا نجوماً على غرار وزيرة السياحة آمال كربول ورئيس الحكومة نفسه مهدي جمعة الذي وجد في معظم وسائل الإعلام "بنديراً" يهلّل له لسبب أو دون سبب.

ومن الداعشيين الذين يمثلون خطراً على البلاد وسائل الإعلام التي إما تبحث عن شهرة سريعة بواسطة خلق الـ "buzz" أو تتبع أجندة سياسية معينة فتهتف لذلك الطرف أو ذاك. هذا فضلاً عن نشر ما تطلق عليه "تحقيقات" – دون أن ندرك فعلاً مدى مصداقية هذه التحقيقات – حول الإرهاب والإرهابيين وخططهم وأماكن انتشارهم، إلخ…

ولا يجوز ان ننسى أيضاً النظام التربوي المقيت الذي يقمع الفكر ويقتل الإبداع ويمنع التلاميذ من إظهار مواهبهم مما يؤدي إلى خلق حالة من الكبت في صفوفهم تنمو وتكبر داخلهم مع كبرهم في سن، لتبني مجتمعاً متطرفاً بامتياز، سواء أكان التطرف لناحية الحداثة أو اتخذ جانباً دينياً.

ولكن، في رأيي المتواضع، ان الخطر "الداعشي" الحقيقي يكمن في عقولنا التي ترفض أن تفكر وأن تتطور وبالتالي تخلق كلّ هذه المظاهر المذكورة سابقاً وغيرها..

التفكير في مصلحتنا الشخصية أولاً وآخراً دون الأخذ بعين الاعتبار آثار ذلك على المحيطين بنا، الاعتقاد بأن الضرر الذي يحدث لغيري لن يطالني أي السكوت عن الظلم طالما انه بعيد عنا، رفض الآخر المختلف ونبذه والسخرية منه والتقليل من شأنه لا لشيء إلا لأن أفكاره لا تشبه أفكارنا.

رفض التعوّد على إعمال العقل والتسليم بما يقدم إلينا من معلومات دون التمحيص والتدقيق فيها، تقديس الأشخاص ورفض توجيه أي نقد لهم وتحويلهم إلى مقدسات لا تخطئ ولا يجوز التشكيك فيها، الاستسلام للظلم والصمت عن الحق والخوف والجبن..

كلّها عوامل تؤدي إلى خلق داعشيين فينا يرفضون قولاً صفة الداعشية ويستنكرونها ويهاجمونها، ولكنهم فعلاً لا يعيشون إلا من خلالها.

ولنكون منصفين، فإن تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي يتميّز عن الداعشيين الحداثيين باعترافه بهذا التطرف وإيمانه به والدفاع عنه وهو في هذه الحالة لا يعيش حالة "schizophrenia" التي يعاني منها أصحاب الانتماء الحداثي.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.