خلدون بن صالح.. نوتة موسيقية حية لا تموت

يسرى الشيخاوي-
في نهاية شهر جانفي من سنة تسعة وسبعين وتسعمائة وألف دوّت صرخته الاولى في وجه الحياة فكانت نوتة موسيقية يتلبس فيها الصخب بالسكينة، وبين صرخة الولادة وصمت الرحيل إلى عالم آخر ملأت النوتة كل التجاويف وزينت كل الفراغات حتى أنها عانقت الحياة وأبت أن ترحل كما رحل خالقها.
وفي حكايا الأب والأخ والأصدقاء تتجلى النوتة الموسيقية تنهر الموت وتقهر الفقد وترتّل حكايا عاشق للموسيقى ينظم الالحان وهو يغازل الاوتار، هذه النوتة الحية التي لا تموت ليست إلا امتداد لخلدون بن صالح الذي رحل عن هذه الحياة تاركا فيها انفاسا عالقة في أوتار "العود" و"الصاز" و"الغيتار".
كانت الموسيقى أنيسته ورفيقته، يسكب بعضا من روحه في النوتات فيخلق الحانا تمد جذورها في أعماقه، وتحاكي نبض قلبه المفعم بالحياة لتقتحم الآذان دون إيذان.
وإذ هو لامس آلاته الموسيقية يعانق عوالم متفرّدة يسكن فيها إلى ألحان تشبه نظراته المتطلعة إلى أفق بعيد بعيد جدّا ويخاطب روحه الحالمة التي تستأنس الى تراتيل الملائكة.
وكما النسيم يداعب الوجوه في الأيام الفائضة مر خلدون في حياة كثيرين ظلوا يعانقون ذكراهم كلما هزهم الشوق إليه، وقد خلّف فيهم ابتسامة أو كلمة أو نظرة أو ايماءة.
ثلاث سنوات وبعض الأشهر تمر على رحيل موسيقي هام بالموسيقى وهامت به حتى تماهت طباعه مع صفاتها، رحيل ذات خريف سقطت فيه ورقة الجسد ولكن جذور الروح مازالت متشبثة بهذا العالم.
في وجوه والده وأصدقائه تتراءى لك ملامح خلدون الشفافة وفي تدويناتهم التي ترشح شوقا ترتسم بعض من صفاته التي جعلته عصيا على النسيان، حتى أنني لا أعرف خلدون ولم التقه يوما ولو صدفة، وكم وددتُ أن أجالسه، ولكنني خبرت دينه وديدنه من حديث من عرفه فبدأ شخصا لن يتكرر.
وانا أكتب عنه امتص احاسيس والده العالقة في حروف تدويناته وأحاديثه عنه ومن تعابير شقيقه ومن ذلك التعليق الموجع حد الابتسام، فأي محبة تلك التي بثها خلدون في قلوب من عرفوه عن قرب حتى أن أحدهم يلتقط صورة مع غريب لانه يحمل بعضا مو ملامح وجهه، بل إن هذه المحبة امتدت إلي.
ليس من الهين على والده زميلنا محمد العروسي بن صالح أن يقاوم وجع الفقد الذي يتعتق بمرور ولكن له أن يمشي مختالا لأن الله يقذف محبة ابنه في قلب من عرفوه حينما كان هنا بيننا وحينما رحل.
مؤلم جدا رحيل الموسيقي الذي سقى الموسيقى من ذاته ولكن الأشد ألما هو أن يتجدد هذا الرحيل في كل مرة يتسلم فيها والده آلة موسيقية داعب اوتارها ذات عناق مع الموسيقى.
ولخلدون بعض من اسمه وهو الخالد في حكايا والده الذي يرسم ابتسامة على شفتيه وهو يتحدث عن عشقه للموسيقى، ابتسامة تخلل للحظة أنها دمعة ضلت طريق رفيقاتها، وهو الباقي الدائم ما بقي أصدقاؤه على هذه البسيطة يحيون ذكراه ويذكرون اسمه ساعات الصفو والحنين ويعوذون من الذكريات من وجع الشوق.
كان مؤمنا بالموسيقى شغوفا بالبحث، بحث لم يهنأ له والده طويلا وهو الذي توغل في النبش في الموسيقى التي تروي المعاناة والعذابات ومال قلبه لموسيقيين اتخذوا الاختلاف و"الجنون" الفني عقيدة ورحلوا عن هذا العالم في سن مبكرة.
مثلهم رحل خلدون في سن مبكرة وكأن روحه الشفافة جدا على علم بموعد خروجها من جسده، ولكن ظل حيا في قلوب أهله وأصدقائه، فخلدون نوتة موسيقية تتجاوز الحياة والموت وتسكن في تفاصيل العود الذي أحضره والده من العراق ذات حصار وفي "الساز" الذي جلبته أمه من تركيا.
هو حي في صدى معزوفاته الذي يملأ الفراغ في غرفته وفي كل نوتة تعزفها ابنتي شقيقه مروان بن صالح، رحم الله خلدون الذي أحببته دون أن التقيه.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.