حينما يتوشّح ركح قرطاج بتعبيرات “ڨولتره نظام صوتي”

 يسرى الشيخاوي

مثيرة هي تلك التوليفة بين مسرح قرطاج الأثري الضارب في القدم وبين موسيقى "ڨولتره نظام صوتي" التي تمتد بين الرفض والمقاومة، توليفة ساحرة تشدك إلى تفاصيلها فتقتفي أثر الكلمات والألحان وتهيم بالتناغم بين المجموعة الموسيقية الذي تجاوز الركح ليبلغ الجمهور.

في هذا العرض المحمل بالمعاني والرسائل يتوشح الركح الأثري بموسيقى المجموعة التي أرادت لنفسها أن تكون خارج التصنيف لمّا شكلت ملامح نهج موسيقي ينهل من أنماط مختلفة دون تشويهها ويجمعها عند نقطة تتحول معها النوتات إلى ألسنة تعلن الثورة.

رسائل كثيرة يمكن استخلاصها من عرض "قولتره نظام صوتي "، من بينها حس المقاومة الذي أوصل المجموعة إلى ركح قرطاج وهي التي انطلقت من "الهامش" والفرح المرتسم في عيون الجمهور الذي يحاكي الفسيفساء، وتحية حليم اليوسفي لوالدته التي تجلس قبالته وكأنها تقول إنها أول جمهوره.

من بين الرسائل الأخرى في العرض، حالة رفض "السيستام" الممتدة في الزمن والتي تجلت في صفوف الجمهور المختلف الذي ردد كلمات الأغاني التي تنتقد في أغلبها النظام في تمظهراته السياسية والاجتماعية.

وعلى ركح قرطاج، طوعت المجموعة الموسيقية، التي تضم مواطنين متمردين يفكرون خارج الاطر وفنانين يكفرون بكل القيود والحدود، الكلمات وسخرت الألحان لتنثر تعبيرات عن تمثلاتهم للواقع بتصور موسيقي لا يخضع للتصنيف قوامه التمرّد والجنون.

وتجربة "ڨول تره نظام صوتي"  لا تستمد فرادتها فقط من موسيقاها المتنوعة ولا من كلماتها التي تمزج بين البساطة والعمق، وإنّما أيضا من كونها حركة قائمة الذات جمعت موسيقيين يتقاسمون نفس الهاجس بوصلتهم الإنسان والثورة والحرّية.

محاكية نسق موسيقى الرفض والمقاومة، تحركت أجساد الجمهور في المدارج وتعالت الأصوات معاضدة صوت حليم اليوسفي الذي منحهم فسحة من الجموح والجنون وهو يصور واقع تونس على طريقته وينشئ زمنا موسيقيا تقويمه الثورة.

وأما عن كلمات الأغاني فوُجدت لتصف حال تونس الذي لا يتبدل ولا يتغير رغم ما توحي به الصورة العامة، وفي ثناياها تعبير عن  كل تلك التقلّبات التي شهدتها البلاد ومازالت، وفي تفاصيلها أصوات المهمشين والمنسيين والمختلفين والرافضين والراكضين وراء الحرية.

الهوة بين المركز والهامش وبين الفرد والمجتمع وبين الحاكم والمحكوم وبين المرتمين في حضن "السيستام" والمارقين عنه وبين من باع مبادئه ومن اشترى نفسه، كلها تجلّت على الركح وانت تصغي لصوت حليم اليوسفي يصدح بكلمات تخاطب العقل قبل العاطفة.

"بلاد آخر زمان"، "قولولي"، "لي تشالو"، "دادة عيشة"، "شكون كان يقول"، أغان ردّدها حليم اليوسفي على نسق موسيقى تماهت فيها انماط موسيقية مختلفة تستمد ثراءها من تجارب عازفين لكل قصته الخاصة مع الآلة الموسيقية التي ترافقه على الركح فيروي من خلالها هواجسه وآماله.

على الركح ينتفض العازفون، يرقصون ضد الواقع والآلام والهموم والفراق ويعلون الإيقاعات الصاخبة فيراودون الجمهور الذي يتمايل منتشيا بانتاجات موسيقية نجحت في أن ن تصنع لنفسها قاعدة جماهيرية ذات تلوينات مختلفة.
 
حوارات بين الموسيقيين والجمهور، وبين الموسيقيين فيما بينهم، وبين كل موسيقي وآلته تنصهر كلّها في محاولة لخلق "سيستام" لغته الموسيقى، لغة تجانب كل الأطر والخانات والتصنيفات خلقتها  "ڨول تره نظام صوتي" التي تثبت في كل مرة أنها  أكثر من مجموعة موسيقية، هي فكرة وحركة.

وفي المجموعة التي تقوم فلسفة تأسيسها  على التفكير خارج الأطر وعلى الحلم وعلى قول ما يعجز الآخر عن قوله وعلى محاكاة الإنسان في كل انفعالاته وفي مساراته وتوجهاته المختلفة، يلتقي موسيقيون فتنشأ بينهم كيمياء تعكس طاقة توشّح أصواتهم وتشع في أعينهم وتنساب من بين أناملهم، طاقة تتسرب إلى الجمهور فيستسلم لألحانهم النابعة من قلوبهم.

على الخشبة يترجم باص قيس الفني زخم الاحتجاج وصدى الهتافات، وتروي غيتارتي حليم اليوسفي ومراد مجول قصص حب لم تكتمل ونبض ثورة مازالت حبلى بالأمل، وتزين كمنجة وسام الزيادي الركح بشاعرية ورومانسية تقطع مع سواد قد يكتنف الواقع.

وفي ترومبيت محمد بن سعيد  تسكن الحرية والرفض والرغبة في التغيير، مشاعر كثيرة وتعبيرات مختلفة خطّها أيضا طارق المعروفي ومحمد أمين خالدي وشهاب البعزاوي حينما توحدوا مع الدرامز والكلافيي والإيقاعات.

ومن بين ما يعلق بالذهن في عرض"ڨول تره نظام صوتي"، تفاعل الجمهور مع أغنية "وين" في توزيع جديد حضر فيه البيانو  الذي داعب سليم عرجون مفاتيحه والكمنجات والتشيلو إذا ما غازل بهاد الدين بن فضل وراضي الشوالي ووديع بلغيث أوتارها.

إلى مساحة شاعرية رومانسية حمل التوزيع الجديد الأغنية المحملة بفيض من الأحاسيس قبل أن تلتحق المجموعة الموسيقية بحليم اليوسفي وتتماهى الإيقاعاا الموشحة بالحماس مع الإيقاعات المطرزة بالحب والحنين.

هالة من المشاعر حاوطت المسرح الأثري بقرطاج وامتدت من الركح إلى المدارح، إيقاعات وألحان صاخبة تتمثل فيها دواخلك والروابط التي تصلك بالعالم الخارجي، تدفعك ّإلى الرقص على إيقاع تفكيرك في صورة المستقبل وأنت تتأمّل الحاضر وتستحضر الماضي.
 

ومع هذه المجموعة أنت لست في مواكبة عرض موسيقي فحسب بل أنت امام محاولة جادة لتعرية واقع " السيستام" وتشكيل " سيستام" الواقع، سيستام ينطلق من الموسيقى لينتهي إلى الشارع وربّما يعود من حيث ولد، كما دأب الموسيقى التي تنهل من الرفض والثورة.

*الصورة: من صفحة مهرجان قرطاج 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.