يسرى الشيخاوي-
وأنت تدخل متحف باردو تنفض عنك غبار الواقع وتنزع عنك كل رداء يشدّك إليه، تنصهر مع حجارة المكان تهبها بعضا من روحك وتهبك بعضا من ذاكرتها، وتصغي إلى ترانيم العشق التي تصدح بها الزخارف.
تمدّ الأبواب العتيقة الموغلة في العراقة أيديها تضمّك وتعبر بك حواجز الزمن وتلقي بك في أحضان الآلهة، ويأخذك عميد الآلهة بعل آمون إلى ينابيع الحياة حيث تتصاعد خيوط البخور المقدّسة، وتتجوّل بك إلهة الطبيعة والنبات والفلاحة ديميتر في قطع من الجنّة وتوشّح رأسك بتاج من الزهور.
ويعرج بك إله العالم السفلي بلوتو إلى باطن الأرض فيملأ كفيك من تراب أحشائه المقدّس وينزل بك إله البحر نبتون إلى قعر اليمّ ويصعد بك جوبيتر إلى العلياء فتستقبلك آلهة القمر سليني بابتسامتها السرمدية.
وأنت ترافق الآلهة في جولاتهم، تسقط عيناك على لوحة فسيفسائية عريضة تخلّد أسماء ضحايا الهجوم الإرهابي بباردو، لتقول إنّ الإرهاب مرّ من هنا ذات 18 مارس 2015.
تترك طقوس النشوة والابتهاج وتتخلى عن رفقة ديونيسوس وتتذكّر المسلّحين اللذين تسلّلا إلى داخل متحف باردو وقتلا اثنين وعشرين شخصا وحوّلا المعلم التاريخي إلى ساحة تعجّ بالجثث والدماء.
وكأنّ الدماء امتزجت بحجارة المكان وزخارفه إذ يتناهى إلى مسمعك صوت شهداء الفن والحياة صارخين ” لنا الحياة وإن متنا ولكم الموت”.
وأنت تتذكّر صورة الدماء والجثث في بوّابة المتحف ويحاصرك صدى الرصاص الذي لعلع في أرجائه ذات غدر، ترتّل أصوات خفية أناشيد الحياة وتطمس أثر الموت.
وفي الزيارة الليلية التي نظّمتها وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية إلى باردو تزامنا مع مرور 130 سنة على افتتاحه، مازال السيّاح يقبلون على المتحف ويسبرون أسرار اللوحات الفسيفسائية التي توثّق لحقبات تاريخية متعاقبة.
الزخارف والفسيفساء والاسفلت والأسقف والأبواب والتماثيل التي خلّدت تلوينات مختلفة للفنّ، تنبض بعشق الحياة، وحتى النصب التذكاري لضحايا العملية الإرهابية بباردو بعثهم أحياء من جديد ويتردّد صدى أصواتهم بين ثنايا الفسيفساء معلنا انتصار الحياة والفن على الإرهاب والموت.
