“حلم” عمر بلقاسمي.. صرخة جمالية في وجه من يريدوننا قوالب سكر

 يسرى الشيخاوي- 

ليس من السهل أن تكون فردا مختلفا في مجتمع سلطوي، مجتمع أكله الزيف والوهم وتداعت "جدرانه" لكنه يكابر ليواصل حراسه فرض الوصاية على الآخرين وكبت حريتهم وحقهم في ان يكونوا أنفسهم.

فمنذ ان تطلق صرختك الاولى في وجه الحياة، تتهاطل عليك الوصايا ويسربونها إليك تباعا على جرعات، جرعة تلو الجرعة حتى تغدو مثلهم بلا علامة مميزة فيك، وإن حاولت التمرّد عليهم رموك بالجنون أو "الفسق". 

وصاياهم مسمومة، تختلط بأنفاسك وتسد كل المنافذ على أمام الرغبة في التغيير أو الخروج عن السرب وتجعلك أسيرا لتعليمات بعينها تضع نصب عينيك ولا تحيد عنها حتى لا تجد نفسك في مرمى سهام مبعثرة.

المشية والوقفة وطريقة الجلوس والتعبيرات والاراء والمواقف والانفعالات والعلاقات مع الآخر يحدّدونها في "كاتالوغ" يجب ألا تحيد عنه وإلا فإنك تعيش غريبا مغتربا وسط أهلك وذويك، تماما كما حصل مع "كوكو" بطل فيلم حلم للمخرج الجزائري عمر بلقاسمي. 

"كوكو" شخصية مختلفة متفردة مرهفة الأحاسيس، يحظى بحب النسوة في قريته لكن الرجال لا يحبونه ويسعون دوما في أذيته حتى أن "كبار" القرية أرسلوه بتزكية من والده إلى مستشفى المجانين.

وعلى امتداد سبعة وتسعين دقيقة، تحملك كاميرا المخرج إلى عوالم ترشح جمالية، جمالية الصورة وجمالية اللغة الأمازيغية الموشحة بالموسيقى وجمالية النقاء الذي يكن داخل "كوكو" ويغدقه من حوله أنّما ولى وجهه. 

مكان التصوير ممتد وشاسع تعانق فيه الخضرة الممتدة إلى ما لانهاية الجبال وتصافح السماء حتى بدا كأنه قطعة من الجنّة تأسرك بكل تفاصيلها وتحملك على اجنحة الخيال بعيدا عن الواقع الذي غزاه قبح المنافقين. 

قرية في اعلى الجبل، يتحدّث أهلها الامازيغية، فضاء غزته الذكورية وتمادى فيه عرشها، عرش لا تهزه أنات النساء المكبوتة ولا وجعهم الصامت، عرش يسكت حراسه كل صوت يقول "لا " في وجههم. 

وفي اختيار مكان التصوير دلالات كثيرة، فهو يحيل إلى الحرية التي لا تخضع للجدران ولا الفضاءات المغلقة وإلى الحلم الذي لا يركع لسواد الواقع ولا إلى الأيادي الممتدة لطمسه. 

وعلى إيقاع خطوات إمرأة تحمل على ظهرها ما تيسّر من حطب وزوجها يسير خلفها دون ان يكلّف نفسه عناء مساعدتها على حملها تتبدى لك الذكورية المقيتة، الأمر ينسحب على كل نساء القرية اللاتي ألفت أجسادهن التعب وماعادت الشكوى تجديها نفعا.

وحده "كوكو" يرأف لحال النساء ويعينهن على أعبائهن، وحده "كوكو" يشعر بآلام أمه ويضمها إليه ويربت على قلبها، وحده "كوكو" إنسان في قرية بدى فيها "كبارها" آلات تستنسخ مجموعة  من القواعد التي لا محيد عنها. 

حنو "كوكو" لا يعجب الرجال من حوله، اختلافه يرهبهم، غيتارته وموسيقاه وغناءه كوابيس في أعينهم، لا حل أمامهم سوى رميه في مستشفى للمجانين انتشله منها شقيقه " محمود" الذي يحاول ألا يئد أحلامه.

حب وشعر وحلم ورقص وموسيقى، تعبيرات استيتيقية مختلفة لجأ إليها المخرج ليعري السلطة الجائرة لبعض رجال الدين الذين يستغلون الدين ليحيطوا أنفسهم بهالة من السلطة والنفوذ ويمعنوا في قراءات خاطئة ينشرون بها العلل في المجتمع. 

الفيلم يفضح، أيضا، المجتمعات السلطوية الأبوية التي تستعبد النساء وتعاملهن بأسلوب فوقي ودوني دون مراعاة لمشاعرهن واستبطان المرأة للذكورية واستسلامها للوضعية التي هي عليها.

قضايا اجتماعية واقتصادية ودينية وثقافية يطرحها الفيلم بأسلوب غير مباشر من خلال مقاومة "محمود" وشقيقه "كوكو" لكل العبث من حولهما ورفعهما نخب الحياة في وجه رافعي ألوية النفاق، أولائك الذين يقولون ما لا يفعلون، أولائك الذين يفعلون ما ينهون عن فعله، أولائك الذين يحاولون حجب ضوء الشمس بأصابعهم لكنهم لا يفلحون.

والفيلم من فاتحته إلى خاتمته، صرخة جمالية في وجه من يريدوننا قوالب سكر، من يكفرونا بالاختلاف وترعبهم فكرة الفردانية، وبرهان آخر على أنه ليس من السهل ان تكون حالما ومحبا في مجتمع سلطوي.

ومن بين تفاصيل "حلم" تستفيق تلك الأمنية الدفينة داخلك في أن يحل ذلك اليوم الذي تحلم فيه دون أن تدفع ثمنا باهضا لحلمك ودون أن تقايضك حلما بشيء آخر كما حصل مع "كوكو".

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.