تشير كل المعطيات أن الحالة الليبية ستشهد تعقيدات أكبر وأخطر من المتوقع، رغم إصرار المجتمع المدني وخصوصا دول جوار ليبيا، على حلحلة الوضع والدفع بكل قوّة نحو تركيز حكومة فائز السرّاج في العاصمة طرابلس.
اجتماع دول جوار ليبيا المنعقد في تونس يعتبر من الناحية السياسيّة، أهم اجتماع منذ دخول المفاوضات والمباحثات حول إيجاد حل للمأزق الليبي. هذا الاجتماع الذي سبقته اجتماعات عديدة في روما والجزائر والصخيرات يُعتبَر بمثابة التتويج لجملة من الجولات المارطونية في مفاوضات لم تسفر الى نتائج حقيقية على الأرض.
اجتماع تونس الذي شارك فيه جزء هام من المتدخلين في المسألة الليبية هو اجتماع مفصلي في تاريخ ليبيا، سياسيّا على الأقل. الإجماع الدولي حول حكومة السرّاج والاتفاق حول ضرورة تسلّمها السّلطة واعتبارها الممثل الوحيد والشرعيّ للشّعب الليبي سيمكّن هذه الحكومة من حزام سياسي ودولي يحميها شرّ الهجومات ويقيها حملة التّشكيك التي رافقت تشكيلها.
هذا الدّعم خصوصا من قِبل دول الجوار الذين أجمعوا، دون استثناء، على أحقّيّة السرّاج في قيادة البلاد، ستقوّي شوكة حكومته أمام جبهات الممانعة التي تتشكّل في كافة أرجاء ليبيا خصوصا من قبل حكومتي طبرق في الشرق وحكومة طرابلس في الغرب اللتين ترفضان أي تغيير على الأرض وهذا مفهوم بالنظر الى كون تسلّم السرّاج للحكم سيؤدّي آليا الى حلّ هاتين الحكومتين واعتبارهما في حكم الماضي.
كما أن القوى الدوليّة عال صبرها وباتت تنتظر بفارغ الصّبر انتقال الحكم «الشرعي» إلى ليبيا بعد أن أمهلت البرلمان فرصا عدّة للمصادقة على حكومة السرّاج لكن دون جدوى. وهي اليوم ماضية في تكريس سياسة الأمر الواقع وفرض الحكومة الجديدة ولو أدّى ذلك الى استعمال القوّة ـــ وهو ما راج طرحه بقوّة في كواليس مجلس الأمن ـــ ، خصوصا بعد تلويح العديد من الفصائل النافذة في طرابلس وغيرها من المدن الى تحويل ليبيا الى مستنقع من الدماء للحؤول دون تنصيب حكومة السرّاج.
حجّتهم في ذلك أنهم يعتبرونها حكومة غير شرعيّة ولم تنبثق من رحم توافق كل الأطياف السياسيّة. كما يروْنها حكومة «عميلة» للقوى الغربية التي تبحث عن غطاء سياسي يشرّع لها استعمال القوّة ويجيز لها استباحة الأراضي ونهب ثروات ليبيا بحجّة مقاومة الإرهاب.
هذا ما يجعل الأمور، على المستوى الميداني، لا تبدو على نحو من التفاؤل. فتشرذم ليبيا ووقوع أجزاء منها تحت سيطرة المجموعات التكفيرية والمتطرّفة بمختلف مشاربها ومرجعيّاتها وميليشيّات مسلحة نجحت في بسط نفوذها بقوة الرصاص ومجموعات قبليّة تتحوّز مساحات هامّة وغير مستعدة الى التراجع قيد انملة عن مصالحها، يجعل من السراج أمام مهمّة شبه مستحيلة.
أضف الى ذلك تقاطع المصالح الذي بات جليّا بين عصابات المافيا والتهريب وتجار الموت والدّين من الإرهابييّن والدواعش الذين جعلوا من ليبيا مرتعا لهم وموطئ قدم يشنّون منها هجماتهم على دول الجوار. ولَأَدَلَّ على هذا الخطر المحدق، ما شهدته مدينة بن ڤردان الأبيّة مؤخّرا من مواجهات بين جرذان داعش وقوات الأمن التونسية التي دحرتهم وأبادتهم وأجبرت المتبقّين منهم على البحث عن جحور تَقيهِم غضب الأهالي ولعنة الموت التي تلاحقهم كلّما أطلّوا برؤوسهم البغيضة.
هذا طبعا، دون أن ننسى الحضور القوي للعديد من اللاعبين الدوليّين المبيّضين للإرهاب والدّاعمين له والذين نجحوا في إغراق ليبيا بشتى أنواع الاسلحة وأفتَكِها وذلك سعيا منهم إلى مزيد إغراق ليبيا في أتون حرب طاحنة ستدرّ عليهم أرباح طائلة كما حصل سابقا في العراق وغيرها من بؤر التوتّر في المنطقة العربية، وما أكثرها، هذه الأيّام.
كما لا يبدو الوضع السياسي على الأرض أقلّ سوءا، إذ سيكون حتما عائقا رئيسيّا ومباشرا أمام تحقيق الحكومة الجديدة لأهدافها وتكريس المشروع الذي قامت لأجله. حكومة السرّاج تلاقي، حتى قبل انتقالها الى طرابلس، معارضة شرسة واستهجانا في مناطق عدّة. العديد من الاحزاب التي تتمعّش من حالة الانفلات والانهيار السياسي وبعض التّنظيمات الطفيليّة التي نجحت في استثمار حالة الفوضى، أبدت رفضها قبول نتائج المفاوضات وترى في حكومة السرّاج المشكل وليس الحلّ.
هذه الأطراف وغيرها يسوؤهم قطعا أي استقرار سياسي في ليبيا لأنه سيذهب بمصالحهم وسيعصف بآمالهم . في سرّهم يعتقدون أن السرّاج هو الحلّ وأنّ حكومته ستضيئ لهم درب نجاح المسار السياسي في ليبيا، لكنهم مجبرون على الجهر بأنّهم لا يقبلون ان يُفرضَ الحلّ من خارج ليبيا ويعتبرون الحكومة الجديدة فاقدة لأي شرعيّة ما لم تتمّ هذه المفاوضات بمشاركة كل الحساسيّات السياسيّة . يذهب البعض منهم إلى ضرورة مقاومتها وإسقاطها مهما كلّفهم ذلك، ولو بقوة السلاح إن لزم الأمر .
وهذا ما يزيد في تعقّد الأمور وتشعّبها وفي تعميق الأزمة وحدّتها .