يسرى الشيخاوي-
السينما فضاء إبداعي ممتد في المجتمع، يقدّم روايات أخرى له، يحاكي تغيّراته ويعكس تجلّياتها اللامتناهية والمتناقصة، وفيه تتراءى صورة المجتمع بكل ما تحمله من جمالية وقبح.
والعمل السينمائي هو بعض من روح المخرج ومن تصوراته ورؤاه وتمثلاته عن المجتمع، تمثلات يسخّر فيها النص والمشاهد وما بينهما من تفاصيل ليحملك في رحلة خطّ تفاصيلها بأسلوب فنّي يحمل غاياته بين طياته.
وفي فيلم " الري والمجيرة" للمخرج أنيس العبسي كان العمل السينمائي حمّل معان ورسائل وذو بعد استيتيقي يعرّي قبح البنى الاجتماعي وينقل أمراض المجتمع التونسي عبر حبكة سينمائية يتسلل الضحك الموجع من بين ثناياها.
نقد اجتماعي ممزوج بطابع كوميدي يتسنى معه وضع الإصبع على بعض الممارسات والسلوكيات في المجتمع التونسي، ولبنة أولى نحو تقويض هذه السلوكيات التي وإن كانت في الفيلم خلّاقة ضحك فإنها في الواقع موجعة جدّا حدّ الصمت.
فـ"الري والموجيرة" تأويل فنّي لعلل مجتمعية نخرت المجتمع وتسللت إلى الأفراد وتسربت إليهم في هيئات مختلفة حتى صاروا يطبعون معها بل ويرمنون بها في أحيان كثيرة ويحاربون من يحاول هدم المعابد التي تحاوطها بهالة من القدسية.
والفيلم الذي يفتتح الدورة السادسة لمهرجان "بانورا الفيلم القصير الدولي" التي تلتئم في شهر فيفري المقبل، يتّسم بحبكة سينمائية تأسر المتفرّج إلى كل تفاصيلها فلا يزوغ بصره وهو يلاحق امراض المجتمع الكثيرة وقد سقطت عنها أوراق التوت.
من النظرة الدونية للمرأة والتمييز على أساس الجنس إلى مصادرة الحقوق والحريات الفردية، إلى المسلمات والأحكام المسبقة فالهوس بالهجرة إلى الخارج، علل ألمت بجسد المجتمع التونسي ومجتمعات عربية اخرى وضع عليها المخرج الاصبع بأسلوب مغاير.
كل التمظهرات السابق ذكرها، نهلت منها الفنون بشكل عام والسينما بشكل خاص، ولكن أنيس العبسي كان مجدّدا في الطرح والتصوّر وهو ماجعل الفيلم الذي راهن عليه المنتج شاكر بوعجيلة يحوز على جائزة احسن فيلم افريقي قصير في مهرجان تورونتو السينمائي.
فمن قصّة طفلين، "ليلى" تقطن بفرنسا وتعود إلى تونس كل صائفة لتقضي العطلة في قرية والدها حيث تقاسم "أحمد" الجديث واللعب والهواجس، هواجس طفلين يسعيان لان يظلّا سويا.
ومن حكايات الطفلين تنشأ وضعيات كوميدية في سياق الفيلم ولكنّها درامية في سياق الواقع تدفع إلى التفكّر في بعض ثوابت المجتمع التي أتى عليها السوس والصدأ لكنّها لا تتغير.
عناصر كثيرة تظافرت في الفيلم ووشّحته بالعمق على بساطة الطرح الذي يخلو من كل تعقيد ومبالغة في النص أو الأداء، وكانت رؤية المخرج واقعية جدّا والكاميرا صادقة أنى وجّهها مدير التصوير بسام عون الله حتى أنك تنسى أحيانا انك بصدد مشاهدة فيلم.
واختيار الممثلين، هو الآخر، كان نقطة ضوء في الفيلم إذ أضافت عفوية الطفلين الكثير للفيلم ، كما أن الحضور التلقائي للممثل الشاذلي العرفاوي كان لافتا في مشاهد الفيلم الذي شرّح الواقع، على قصره.
إلى جانب السيناريو والأداء والإخراج، لا يخلو الفيلم من بعد جمالي يصوّر بعضا من مدينة نابل الساحرة وكأن مخرج الفيلم يقول إن تونس ورغم العلل التي تلم بالمجتمع فيها إلا أنّها جميلة آسرة، ليكون الفيلم مراوحة ذكية بين السلبي والإيجابي.