3
محمد علي الصغير-
ماذا يجري داخل حركة النهضة ؟ هل فعلا ما يحدث من شروخات وانشقاقات عبر عنها بعض القياديين في وسائل الاعلام هو انعكاس لواقع الحركة أم مجرد صراعات وهمية يعتمدها هؤلاء لذر الرماد على العيون وتخفيف الضغط عن الحركة؟ هل تكسرت الصورة النمطية لحركة النهضة كحزب متراص وموحّد ومنضبط أم أن الأمر يتعلق بمجرد هزّة خفيفة بمثابة الظاهرة الصحية داخل كل الأحزاب القوية؟ هل هي بداية نهاية حركة سياسية لم تستطع طيلة هذه السنوات التعايش بشكل طبيعي في مناخ اجتماعي وسياسي مختلف عما تسوق له من أفكار ومرجعيات؟ هل يكون الحكم الصخرة التي تتحطم عليها كل الأحزاب والأنظمة العاجزة عن الإيفاء بتعهداتها إزاء ناخبيها وجماهيرها؟.
هي أسئلة من بين أخرى كثيرة تتناقلها اليوم وسائل الاعلام ويسلط المحللون عليها الضوء في ظل الأزمة الحادة والصراع "الزعاماتي" الذين يعصفان هذه الأيام بحركة النهضة التي شغلت تجربتها في تونس الناس وكانت مضربا للمثل في الانضباط والالتزام الحزبيين.
تم تسويق الصراع داخل حركة النهضة الاسلامية في ظاهره باعتباره محاولة ضخّ دماء جديدة داخل الحركة ورغبة في انتهاج النمط الديمقراطي وتطبيقه فعليا، ليس فقط صلب هياكل الحركة، بل أيضا في مستوى القيادة. لكن في واقع الأمر هذه القراءة هي الشجرة التي تحجب الغابة. ذلك أن المائة قيادي الذين وجهوا رسالة "التخلي عن الرئاسة أو عدم التمديد" لراشد الغنوشي أو "ضمير الحركة" كما وصفهم محمد بن سالم أحد الرافضين لبقاء الغنوشي على راس التنظيم، يدركون جيدا أن "الشيخ" أصبح يمثل عبئا ثقيلا، لا على الحركة فحسب، بل على السلم الأمني في البلاد برمّتها.
ذلك أنه كلما وقعت عملية إرهابية الا وتم رفع شعارات منددة به وبالحركة في اتهام صريح له بدعمه للإرهاب والإرهابيين وهي صورة نمطية تعلقت بذهن فئة هامة من المجتمع في علاقة بمثل هذه الأحداث. زد على ذلك فبقاء الشيخ على رأس المؤسسة التشريعية أصبح يشكل عائقا يحول دون السير الطبيعي لعمل المجلس ذلك أنه محل انتقاد دائم من قبل "حلفائه" أو خصومه على حد السواء.
عثرات الشيخ…
ولعل الزلّات والعثرات المتكررة والمتشابهة التي ارتكبها الشيخ، بحسب المناوئين له، وآخرها تحالفه التكتيكي مع نبيل القروي الذي طالما جاهر بعدائه الشديد للحركة ورموزها، من بين الأسباب التي عجلت بتصدر هؤلاء المشهد متوعّدين إياه وكل من يزيّن له البقاء ومواصلة التحكم في مفاصل الحركة بعواقب خرق النظام الداخلي للحركة داعين إياه الالتزام بعدم التقدم لولاية ثالثة على رأسها.
ويبدو أن "المارقين الجدد" عن زمرة الشيخ وخلانه، بعد أن نأى عنه العديد من أبناء الحركة من المؤسسين وقادة الصف الأول على غرار حمادي الجبالي وعبد الفتاح موروا والحبيب اللوز والصادق شورو وغيرهم ممن انقطع حبل الود بينهم وبين الغنوشي، لم يغفروا له التنازلات العديدة التي قدمها والصفقات السياسية التي طبخها مع "الأعداء التقليديين" للحركة خصوصا في علاقة ب"التوافق" التاريخي الذي أبرمه مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ومن خلاله حزب نداء تونس الذي تم تأسيسه خصيصا لخلق التوازن السياسي وضرب النهضة الحزب المهيمن على الساحة السياسية آنذاك. وهو ما كبّد الحركة شرخا واضحا على مستوى الخزان الانتخابي حيث لم تتمكن الحركة بفعل الهزات التي تعرضت لها طيلة تواجدها في الحكم من المحافظة على عدد المقاعد في الانتخابات التشريعية اذ لم تفز سوى ب 52 مقعدا في انتخابات 2019 بعد أن كانت حائزة على 69 مقعدا في انتخابات 2014 و98 مقعدا سنة 2011. وهو ما يؤكد التقهقر المتواصل على مستوى نيل ثقة الناخبين اذ يخشى المنقلبون على الشيخ ان تصبح النهضة حزبا أقليا في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
ولئن تقول القاعدة عموما إن البقاء في الحكم منهك ويستنفذ قوى الحزب على اعتبار وجوده في دائرة الضوء وعرضة لكل سهام النقد والانتقاد، الا أن معارضي الشيخ من داخل الحركة أو خارجها يحمّلونه الجزء الأكبر في حالة الانعزال والنفور التي تعانيها الحركة من قبل معظم مكوّنات المشهد السياسي. فسياسة الهروب الى الأمام التي ما انفك ينتهجها في كل ما يتعلق بالقرارات المصيرية التي تهم مستقبل الحركة جعلت علاقته بقياديي الحركة تفتر يوما بعد آخر.
كما أن تدهور صورة الحزب لدى الرأي العام الوطني وحتى الدولي بعد ما يناهز العقد من الزمن منذ توليه مقاليد الحكم مع ما شاب ذلك من مناكفات وصراعات مجانية أحيانا مع العديد من التيارات والأحزاب السياسية التي كانت في وقت قريب في خانة الحلفاء دفعت البعض ممن يعتبر أنفسهم قادة للتيار "الإصلاحي" بالمطالبة برحيل الشيخ وتمكين القادة الشباب ممن أثبتوا جدارتهم تصدر المشهد من نيل فرصتهم في قيادة الحزب وبالتالي ضخ دماء جديدة قادرة على فسخ الصورة النمطية التي وسمت بها الحركة منذ تأسيسها كتنظيم متكلّس وجامد المرجعيّة، وإعطاء بعد أكثر انفتاحا وتماهيا مع المشهدين السياسي والاجتماعي.
وربما كان الامتحان العسير الذي مرت به الحركة بعد تمكن راشد الغنوشي من تفادي الخروج المذل من رئاسة مجلس النواب بعد سقوط اللائحة المطالبة برحيله من هذا المنصب وكذلك رفض مكتب البرلمان تمرير لائحة تصنف جماعة الإخوان تنظيما إرهابيا، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. اذ بات من الواضح أن وجود الشيخ في صدارة المشهد السياسي يعتبر ضربا من ضروب المقامرة وارتهان للحزب بأكمله لمجرّد إرضاء كبرياء مؤسّسه الذي يرفض انهاء مسيرته السياسية خلف الستار والذي لم يجد حرجا في تكريس مبدأ الرئاسة مدى الحياة، في تضارب صارخ حسب تعبيرهم "مع المبدأ الذي ناضل ضده وقمع من بسببه أبناء الحركة وشرّدوا" ، والحال أنه وعد حال قدومه الى تونس بعيد الثورة أنه لن يترشح لأي منصب سياسي.
المرشد والزعيم الملهم
والظاهر أن هؤلاء القياديين الذين اجتمعوا على هذا الأمر رغم اختلافاتهم السابقة حول العديد من المسائل الجوهرية المتعلقة سواء بعملية التسيير أو بالمراجعات الفكرية التي قامت بها الحركة، قد ذاقوا ضرعا بالطريقة "الأحادية واستبدادية القرار" التي يسيّر بها الغنوشي الحزب بتواطؤ صريح من قبل جزء هام من مريديه من القياديين رغم وجود هيئات لدمقرطة العمل صلب التنظيم على غرار مجلس الشورى، معتبرين أن المناخ الديمقراطي والتعددي الذي يسود الساحة السياسية يجب أن تقتحم نسائمه مكاتب الحركة في منبلزير. الأمر الذي ينكره على ما يبدو الغنوشي وأتباعه من الداعمين للتمديد على غرار الرجل القوي في الحركة عبد الكريم الهاروني وصهر الشيخ رفيق عبد السلام الذين جاؤوا بمقترح تنصيبه زعيما للحركة في عملية استنساخ رديئة و"مضحكة" على حد قول القيادي محمد بن سالم، للتجربة الإيرانية من خلال تحويل الشيخ الى مرشد أعلى.
ففي رسالة نسبت لمؤسس حركة الاتجاه الإسلامي وفيها رد على "رسالة المائة" اعتبر فيها ما ينطبق على الرؤساء لا ينطبق ضرورة على الزعماء وخصوصا المؤسسين والذين قدموا التضحيات الجسام وناضلوا من أجل استمرارية الحركة وأن الحركة تحتاج الى قائد ملهم في حجم الغنوشي في غياب البديل القادر على الذود عنها من كل الهجومات ومحاولات اضعافها. رأي يعتبره "روّاد التغيير" من قبيل الالتفاف على القوانين والالتزامات التي تم إقرارها في المؤتمر الاستثنائي العاشر للحركة سنة 2016 والذي اعتبره النقاد والمحللون نقلة نوعية في تاريخ الحركة ومنعرجا هاما في مسارها الفكري والسياسي حيث تم الإعلان عن "مدنيّة" الحركة وفصلها بين البعدين الدعوي والسياسي.
ولعله من المهم الإشارة الى أن من بين هؤلاء القياديين الذين وصفوا من قبل خصومهم بالقلة القليلة، نجد سمير ديلو الذي لم يجد حرجا في الاقرار بأن النهضة تنتظرها "أيام صعبة" معتبرا أن "أكثر من يضرّ الزعماء هم من يتشبّثون بهم وفي الحقيقة من يمنح دماء للأحزاب هي الأفكار الجديدة والأشخاص الجدد والتداول والتطور ” وكذلك محمد بن سالم الذي لم يستبعد، خلال أحد تصريحاته الاعلامية حصول "تقسيم للحركة" في حال عدم عدول الشيخ عن ترشحه لولاية ثالثة على رأس الحركة.
القدر المحتوم !
الصراع داخل الحركة في تونس هذه الأيام بين التيارين "الأصولي" و"السياسي" كما يعتبر بعض دارسي الجماعات الإسلامية، بدأ ككرة الثلج التي أخذت في التشكّل والتضخّم يوما بعد آخر الى ان وصل مداها هذه الفترة الى أبعد حد حيث من المرجح أن تعصف موجة الجليد هذه والتي أصابت علاقات قيادات الصف الأول، باستقرار الحركة وثباتها والانضباط الذي يعتبر السمة الأبرز المميزة لهذا التيار والسبب الرئيسي وراء صموده رغم الهزات العنيفة التي هزته في أكثر من مناسبة.
ويبدو أن ما يحدث صلب حركة النهضة ليس بمعزل عما يجري منذ فترة داخل جميع الحركات والأحزاب المنتمية للتيار الإسلامي الذي تذوقت حلاوة السلطة وتنعّمت بترفها وامتيازاتها. فما يحدث اليوم في مصر صلب حركة الإخوان المسلمين من تراشق بالتهم الى حد التخوين خصوصا بعد الإطاحة بها سنة 2013 على يد الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي أبدى ولاءه للتنظيم قبل أن ينقلب عليه ويزيحه من الحكم ويزج بمعظم قياداته في السجن، يؤكد أن هذا التسونامي الذي يكاد يعصف حاليا بهذه التنظيمات العقائدية ربما يكون النتيجة الحتمية لطريقة التسيير والقيادة داخلها.
ذلك أن كل هذه الحركات والأحزاب دون استثناء تقريبا تقوم أسس التنظّم داخلها على الولاء الأعمى والبيعة المطلقة والطاعة للزعيم الذي هو بالضرورة الملهم والمرجع الذي يستمد منه أتباعه القوة والسداد وهو الحاكم بأمره وهو الوحيد الذي يعرف مسارات ومصادر تمويل الحركة وسبل الانفاق داخلها. وعلى ذلك، كلما حصل فراغ أو رغبة في التغيير الا وتحولت هذه التنظيمات الى براكين خامدة سرعان ما تنفجر بمجرد خروج أولى الشرارات الى دائرة الضوء.
وما يحدث حاليا صلب القيادات في حركة النهضة يشير بما لا يدع مجالا للشك أن القادم سيكون اسوء مما توقعه أكثر المتشائمين. ذلك أن الزلزال الذي سيعصف بالحركة في حال تمادى الشيخ في مسعاه وتمسك خصومه بموقفهم ربما تكون قوته أعلى من ذلك الذي عصف منذ يومين بتركيا، قبلة الاخوان المسلمين في العالم أسره، ذلك أن مرجل الغيض اشتعل، لا في نفوس المعارضين فحسب، بل حتى في نفوس أنصار الحركة اليائسين حمائم كانوا أم صقورا…