17
يسرى الشيخاوي-
طفل صغير يصحو من النوم على وقع البكاء والنحيب، يفرك عينيه وتتسع حدقتيه كلّما ارتقع صوت العويل، يتمطّى ويتثاءب ويفرك عينيه مجدّدا، ربّما يحاول أن يتأكّد أنّه غادر فراشه البارد، يحاول عبثا أن يفكّك المشهد من حوله، كل العيون شاخصة إليه ولكن الألسنة ساكتة عن الكلام.
ينتظر الصغير إجابة تسكت الأسئلة البريئة التي تجوب برأسه المثقلة بالصراخ العالق بين شقوق الجدران، ينتظر بلا جدوى وتتسلّل من فمه الكلمات مرهقة بأثر النوم والذهول من الأفواج التي ترابط في منزل لا يستوعبها، "وشفما.. وشبيكم"، وهو قطعا لم يكن يتوقّع ان تكون الإجابة " أمّك ماتت".
مازال الطفل صغيرا، ليستوعب معنى الموت بكل ما يحمله من وجع، وربّما يكبر ولن يستوعبه هو فقط سيتعايش معه وسيعانق النسيان إذا ما سئم قتامة الواقع، هو مازال صغيرا على تقبّل المأساة ولكنّه انخرط في موجة النحيب.
ومشهد نحيب الطفل الصغير، ليس مشهدا من وحي الخيال، بل هو حقيقة عاينتها ناشطات حقوقيات في زيارتهن لدوار البلادهية، حيث كنّ أمام طفل لا يعي حركات النحيب التي كان يؤتيها، هو فقط يقلّد المحيطين به ويعبّر عن صدمته بطريقته، يبكي ويصرخ ولا يلقي "فولارة" والدته من يده.
وقد تعجز الكلمات عن وصف مأسوية المشهد ونقل منسوب الوجع الذي نقف أمامه صامتين، ولكنها إذا ما اجتمعت بالألحان قد تكون معبّرة ولو قليلا، إذ أن الموسيقى تأتي في المرتبة الثانية بعد الصمت عندما يتعلق الأمر بما لا يوصف، كما يراها الفيلسوف الصيني لاوتزه.
وفي كليب " حراير" للمجموعة الموسيقية " ميعاد باند" تظافرت الكلمة واللحن ليخلّدا فاجعة السبالة التي راحت ضحيّتها نسوة لا ذنب لهن سوى أنّهن خلقن في دوّار انعدمت سبل الحكومة إليه.
وفي القصرين رأى " كليب" الأغنية النور، على يد مجموعة من الشباب الذين اختاروا الالتزام نهجا وطريقا، بكلمات بسيطة بعمق وإمكانية أكثر بساطة، أهدوا أغنية إلى أرواح حرائر السبالة وغيرهن من النساء اللاتي يركبن شاحنات الموت من أجل دنانير يبذلن في سبيلها عرقهن ودماءهن.
و"حراير" كلمات وألحان مغمّسة بالوجع والنسيان، وجع يتامى فقدوا امهاتهم في حوادث نقل العاملات الريفيات ونسيان الدولة لهم وخير دليل على ذلك تكرّر هذه الحوادث إلى يومنا هذا.
وفي إخراج بسيط، أشرف عيه همام التليلي، كانت " الفولارة" الخضراء التي ترديها نسوة "الدوّار" توقيا من لفح البرد والحر سيّدة المكان، تربطها آمنةنجلاوي، الفنانة القادمة على مهل في "الميكرو"، وتطلق العنان لصوتها ليبكي نسوة اختلطت دماؤهن بأشلاء الدجاج ذات حادث.
المكان سبالة اولاد عسكر، الزمان صباح الوجع، والأحداث كلّها نابعة من بكاء الأهالي على شهيدات الخبز، تلك النساء اللاتي يغادرن منازلهن فجرا ينشدن دنانير يجابهن بها الفقر المدقع، والتعبيرة موسيقى وكلمات أهدتها مجموعة " ميعاد باند" لحرائر السبالة.
"في يدو محرمة خضرة بالنوار ..يتسمى كبير وهو تحتو ثلاثة صغار .. قالولو امك من كادحات الدوّار .. ركبت من تالي في كميون الجار .. اتخطفت في فجر مضبب غدّار.. هاجت غبّارة و المكتوب صاير ..ماتت هي و اربعطاش حراير "، هذه كلمات الأغنية التي خطتها أنامل حمزة العجلاني، كلمات بسيطة واقعية وصادقة حدّ البكاء.
ونبرة صوت آمنة نجلاوي المتفرّدة وخامتها المميزة، جعلت الوجع شفافا عاريا، وحرّرت صرخات الحزن من كل القيود وأزاحت عنها الحدود، حتى أنّك تخال أنّ آهاتها ستتجاوز السماوات وتحمل شكوى اليتامى بعيدا عن وعود السلطة الزائفة.
وفيما " الفولارة " الخضراء ترفرف في محيط السبالة، حيث انحنت السنابل من قسوة الواقع وتسارع نسق الريح وكأنها تريد أن تمحي رائحة الموت المنتشرة في الأرجاء، تسابقت الألحان التي رأت النور على يد نزيه العبيد لتعبّر كل آلة موسيقية عن المأساة بطريقتها.
ونوتات الكمنجة إذ بعث فيها حمزة العجلاني الحياة تحاكي آهات الأطفال وصرخات اليتم المكتومة، وألم الفقد والفراق، وأنغام الكمنجة إذا ما داعب نزيه بن عبد الله أوتارها تشبه أنفاس الأهالي وهم يترقّبون أخبار الموت، واما الإيقاعات التي تحدثها أنامل حمّة الهيشري وعز الدين العلوي فتحيلك إلى وقع ارتطام أجساد العاملات على الاسقلت ساعة الحادث.