بقلم: فرحات عثمان –
القانون عدد 52 المجرّم للزطلة هو من أفظع ما تركه نظام الدكتاتورية بتونس الذي استنبط هذا النص الجائر للتغطية على فساد عائلة الرئيس السابق وزوجته. فمن المشتهر المعلوم مدى انخراط الأخ الأصغر للرئيس بن علي في المتاجرة بالمخدّرات، تردّدت أصداء ذلك في محاكمة شهيرة بقصر العدالة بالعاصمة الفرنسية بداية تسعينات القرن الماضي. لذا، ابتدع النظام المنهار هذا القانون للتمويه، فأراده قاسيا لأبعد حد. فكان من الغريب ألا يقع إبطاله منذ قيام الثورة، أو ما نُعت كذلك، أي الانقلاب الشعبي في مصطلحي؛ بل وربّما التعويض للمتضررين منه على ما لحقهم جرّاءه من ظلم؛ ألم يقع التعويض لأحداث أخطر من تعاطي الزطلة، بما فيها اعتداءات إرهابية على حرمة النفس البشرية؟
والأدهى أنّ إيقاف الشباب وسجنهم بدعوى تعاطي الزطلة تواصل بعد سقوط النظام السابق، إلى أن أتى نصّ قانوني بعد لأي لينقّح هذا القانون المشين بصفة جدّ طفيفة، رافعا حتمية التصريح بالسجن، أيّا كانت ملابسات القضية؛ بهذا، أصبح للقاضي اليوم الحكم بعدم حبس الموقوف أو عدم إيداعه السجن، الشيء الذي لم يكن متاحا له بمنطوق القانون نفسه. على أنّ هذا يبقى من باب الفرضية فقط، لا الحق المكتسب؛ كما أنّ تعاطي الزطلة لا يزال جرما لا شك فيه بلا اختلاف. وإنّه الإشكال الكبير ولبّ المشكلة برمّتها، أسّ بنيان الظلم الذي لمّا يتمّ بعد هدمه؛ ولا نيّة صريحة للسلط في هذا الاتجاه لتعلاّت واهية، دينية وأخلاقية بالأخصّ، ما دام السبب الصحّي انتفى بشهادة أهل الاختصاص. فلئن تواجدت بالبلاد بعض المؤسسات المختصة في الوقاية والمعالجة من الإدمان على المخدرات، فهي لا تخص إلا القلّة القليلة من الشباب الذي لا يدخّن الزطلة إدمانا؛ بل هو لا يدمن عليها إلا بعد دخوله للسجن، مما يحمله على المرور إلى غيرها، ممّا فيه حقيقة الخطر الصحي. ولقد كان من الأجدر على السلط تحرير استهلاك الزطلة والاقتصاد في المصاريف التي تذهب اليوم سدى في السجن لأجل الوقاية والمعالجة، فالتفرّغ لمقاومة التهريب والمتاجرة بالمخدرات. فليس من الخطأ القول إن ظاهرة الإدمان على الزطلة لم يعرفها العديد من شبابنا إلا بعد الإيقاع بهم والمرور بالسجن؛ ففيه عرفوا حقيقة الاستهلاك وتعلّموه.
السجون عندنا أصبحت مصانع الإدمان على المخدرات؛ هل هذا ما تبتغيه السلط؟ هناك من يقول بهذا الرأي، بل يرى أيضا أنّ في العالم سلطات تبتغي أكثر من ذلك من الفظاعة كطريقة شيطانية للتحكم في مجتمعها وتقويض كل ما يمثّل فيه بع الخطر على نفوذها ودوام تسلّطها عليه، وذلك بجميع الوسائل. ولقد تكلّمتُ عديد المرّات عن واقع السجون التعيس عندنا، وما يفرزه من عادات سيّئة مهينة للمساجين، وأيضا لهيبة بلاد تسعى لشرف دولة القانون، واجبها الأوّل فيها احترام منظومة حقوق الإنسان كاملة. هذا، وفي مجتمعنا ذي القوانين الجائرة، ليس غريبا أن تخلق هذه الأخيرة في أدمغة الناس أيضا الجرم ظنا وبهتانا، ممّا يعطي واقعية مزيّفة لنصّ قانونٍ لا أرضية له، ما يجعله سرمديا بمجرّد اعتقاد الناس فيه وأخذهم به، حتّى عند انتفاء مجرّد الضرورة لذلك. بذلك تبيّن تصرّفاتنا وقوانيننا كذب الادعاء الرسمي في أنّ هدف السجن لهو التأهيل لإعادة الحياة السليمة في المجتمع. فهذا لا يكون إلا بقوانين سلسة سليمة الروح والنص، لا جرثومية، مثل قانون الزطلة الذي يمتدّ ضرره إلى العقول يُفسد العقليات. فقد أصبح في مجتمعنا كالسرطان الذي بلغ حالة الانبثاث في الجسم والانتقال فيه بسرعة تغيّر مركز المرض من البدن إلى العقل، ومنه إلى العقلية، فمنها إلى التصرّفات، إلى حد انقلابها إلى ارتكاسات شرطية. ويبلغ السيل الزبى مع الضعف المتناهي الذي عليه صحة المجتمع لاعتلالها بما يشابه قانون الزطلة في الضرر، تلك القوانين المجحفة المفسدة للعقليات والنيات السليمة، مثل عدم المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وتحريم الخمرة، بينما ليس محرّما في الإسلام الصحيح إلا السّكر أي المبالغة في شربها، أو تجريم العلاقات الجنسية بين البالغين، بما فيها العلاقات المثلية.
إنّ التثبّت المستدام من دوام عدالة القوانين في مجال الحياة الاجتماعية ليتحتّم قي دولة القانون؛ وهو من أبسط قواعد النزاهة. فاستنباط الفحش التشريعي المسمّى قانون عدد 52 هو السبب اليوم في إهدار مستقبل العديد من شباب تونس؛ وقد تنزّل تاريخيا في عقلية التصدّي لسياسة الاحتلال التي كانت جد متسامحة مع المخدرات، بصفة عامّة، والزطلة أو ما كان يسميّ بالتكروري والكيف، بصفة خاصّة. أتى ذلك مع الاستقلال باسم الانتصار للسيادة وللأخلاق، وتنديدا بتعمّد سلطات الاحتلال التسامح مع استهلاك المخدرات بما فيها الثقيلة، كالهروين، وإن لم يكن استعمالها مسموحا به قانونيا بخلاف التكروري. ذلك لأن طب الأمراض النفسية الفرنسي، خدمة لسياسة الاحتلال، نظّر لما تمّ نعته بنزق إجرامي، وهو ما كان يُعتقد من طبيعة بدائية عند العربي والمغربي من أهالي البلاد المغاربية المحتلة، مزاجها تأمّلي منفعل ومستسلم مع بعض الفترات الثائرة. فمن النظريات التي كانت منتشرة في ذلك الوقت أن ما كان يُسمّي بالأهالي لهم قابلية في ذاتهم للإدمان على المخدرات السامة، خاصة وأن النزق الإجرامي في رأي بعضهم من شأنه التوسّع بفعل الوازع الديني. هذا الفهم الخاطئ للنفسية العربية التونسية والمغاربية أدّى بقادة تونس المستقلة للقطع مع كل صفة من صفات تعاطي المخدرات، بما أنّها كانت ترمز للاحتلال البغيض وإضافة للاستلاب الشخصي والخلل الاجتماعي. لهذا، سارع المشروع الاجتماعي لسلطات الاستقلال بتجريم كل استهلاكٍ لأي مخدّرٍ، بما في ذلك الكيف والتكروري أو الزطلة؛ فأتت العقوبات ثقيلة للردع. كان هذا قبل ما حدث مع دكتاتورية العهد البائد من مزايدة على حساب حريات الشباب ومستقبلهم، مضحيّة بالأبرياء لأجل خدمة صورتها بالخارج، مدّعية الوقوف بصرامة في مقاومة آفة المخدرات، بينما كانت تتمعّش منها، وعوض أن تكون صارمة في تجفيف منابعها، وهي المتاجرة بها بقنوات التهريب والإجرام. أمّا بعد ما يزيد عن ستّين سنة من الاستقلال وسنوات عشر ممّا دعوناها جزافا ثورة الحرية والكرامة، هل نداوم على حالة الخزي المتمثّلة في تواصل سطوة قوانين العهد البائد إلى الساعة على شبابٍ مظلومٍ يقاسي الأمريّن منها؟
لعلّ لقائل أن يقول بضرورة الوقت الطويل لإصلاح ما فسد؛ وهذا منطقي وجدّ معقول عند الكلام النزيه، الذي لا خداع فيه، لا سياسيّا ولا قانونيّا. أمّا النزاهة، فهي في مسارعة أهل الحل والعقد بالبلاد بأخذ القرارات السريعة والمنطقية في إيقاف تنفيذ أفظع القوانين هذه. وأمّا طرح الخداع السياسي جانبا، فهو مثلا في صدور الأمر من وزير الداخلية لمأموريه بعدم إيقاف من ليس جرمه إلا الاستهلاك ولأول مرة، كما كان الأمر بالنسبة إلى صامد؛ كما أن طرح الخداع القانوني يكون بالإذن من وزير العدل للنيابة العمومية بعدم إحالة الموقوفين ممّن هم في هذه الحالة على القضاء. وبالطبع، من النزاهة أيضا أنّ من واجب الذين يدّعون الانتماء إلى ثورة الشعب، ويصدرون الأحكام باسمه، أي القضاة، الالتزام التام بتطبيق الدستور وعدم قبول النطق بالأحكام حسب ما ألغاه من قوانين لم تعد لها صفة الشرعية. والشيء نفسه يُقال لمن يعتدّ بأن واجبه ودوره الدفاع عن الأرملة واليتيم؛ فأين هذا في واقعنا المرير، إذ نحن نرى البعض من المحامين يُدير دولابه من التبعات المادّية لما يلحق هؤلاء من ضيم، كما كان الأمر مع يتيم الأب، صامد؟ فكيف يرفض عميد المحامين بتونس القبول بإبطال تجريم الزطلة، كما حدث أثناء مناقشة مشروع تنقيح القانون بالبرلمان؟ فلأجل هذا الموقف وغيره من المناهضين له، وقع تجميد مشروع إبطال القانون عدد 52 بمجلس نواب الشعب إلى اليوم والاكتفاء بتنقيحٍ لا فائدة كبيرة منه؛ فهو كالدواء الذي ليس فيه فقط فائدة، بل مضرته أكبر من نفع كاذب. ففي الخامس والعشرين من أفريل 2017 ، اكتفى البرلمان بالمصادقة على تنقيحٍ لفصل من فصول القانون عدد 52 ، وهو الذي يفرض السجن لسنة في كل الحالات، مع غرامةٍ مالية بقيمة ألف دينار، كما كان الشأن تماما مع صامد، أي لمسك المخدر أو تعاطيه لأوّل مرة.
إنّ القانون المعمول به اليوم، بما أنّ التنقيح الذي وعد به الرئيس المرحوم قائد السبسي دخل حيّز التنفيذ منذ نشره بالرائد الرسمي في الحادي عشر من ماي الموالي، يُمكّن القاضي من استعادة الحقّ المخوّل له من طرف الفصل 53 من المجلة الجنائية الذي يسمح له بعدم الالتزام بتطبيق أحكام السجن الواردة بالمجلة والحكم بإطلاق سراح الموقوف إذا كان ممّن يتعاطى لأول مرة الزطلة وعلى شرط قبول المعالجة، أي اتّباع حصص لزوال الانسمام، علاوة على التحليل النفسي. هذا التنقيح الهيّن يمكّن القاضي من إمكانية عدم التصريح بالإيداع في السجن واستدعاء الموقوف في حالة سراح، ما لم يكن ممكنًا مع صامد حسب القانون المنقّح الذي كان يرفض ذلك، إضافة لمنع القاضي من حرّية عدم التقيّد بالنص فيما يخص إلزامية السجن والغرامة. وقد تمّ بعد الشروع في تطبيق هذا التنقيح قضائيا؛ كان ذلك لأول مرّة يوم الخامس عشر من ماي الماضي من سنة 2017 ، بالمحكمة الابتدائية بتونس، من طرف قاضي الغرفة السادسة الجناحية. أتذكّرُ جيّدا هذا التاريخ، وما كتب البعض فيه ممن قاوم ويقاوم بشراسة القانون عدد 52 ؛ ذلك أني استغربتُ كثرا ترحيبهم الغريب بما لم يكن إلا من باب ذرّ الرماد على الأعين. إنّ تمجيدهم لغريب لقرارٍ يطبّق تنقيحا يُبقي على الجرم كاملا ولا يعترف بحرية الشخص في استهلاك ما ليس الضرر الناتج عن منعه بأكبر من الاستهلاك؛ خاصة وأنّ المشرّع لا يمنع استهلاك ما فيه الضرر الأكبر، أي التبغ؛ فالعدل الصرف يقتضي إمّا تجريم تدخين التبغ أو إبطال تجريم تدخين الزطلة. هكذا، لشدة تفشّي، في نخبنا، ظاهرة توخّى التؤدة في كل شيء، حتّى فيما لا تؤدة فيه منطقيا أو صحّيا أيضا، يقبل الحقوقيون عندنا أنصاف الحلول، بل أرباعها، عوض التمسّك بالحق؛ فإذا بمثل هذه الحلول العوجاء تُقبر القضايا الهامّة لحين يبلغ السيل الزبى! وإنّ اعتبار البعض تاريخيا ما تمّ من أمر هيّن لا يشرّف نزاهة النضال؛ فهم لا يجهلون أنّ هذا التنقيح ليس إلا الدفن، المؤقّت على الأقل، لحتمية إبطال تجريم الزطلة لاستفحال مضرتها المباشرة وغير المباشرة. مع العلم أن ما حدث بالضبط يومها تمثّل في أنّ القاضي، الذي أبقى بدايةً الموقوف بحالة سراح، أصدر حكما بالسجن لسنة مع وقف التنفيذ وبخطية بألف دينار لتدخين سيجارة زطلة لأول مرة في حياته؛ تماما كما كانت الحال مع صامد. بذلك، بقيت دار لقمان على حالها رغم ما تغنّى به البعض من أنّ هذا الحكم، ولأول مرّة، مثّل خطوة هامّة في نضالهم من أجل حقوق الأبرياء!
لا ريب، تلك في الواقع خطوة إلى الوراء؛ إذ لا مناص لإعادة حقوقهم إلى الأبرياء، لا فقط بإبطال تجريم الزطلة، بل وأيضا بإعادة الاعتبار إليهم، على الأقل معنويا من باب النزاهة والعدل. فالحكم، حتّى وإن صدر مع توقيف التنفيذ، مدوّن في سجل سوابقهم العدلية؛ وقد رأينا، بعد الثورة، من قام في وجه النظام وتعاطى الإرهاب، أيًّا كانت دوافعه، يتحصّل على ردّ الاعتبار، وكذلك على تعويضات مالية سخيّة باسم العدالة الانتقالية! أمّا أمثال صامد ممّن هُدم مستقبلهم بقانونٍ جائرٍ للنظام الذي حتّم العدالة الانتقالية، فهم لم يحصلوا على أيّ شيء؛ فكيف نعامل من تساوى جرمه بطريقة مختلفة؟ وهل يتساوى قانونيا جرم من قام بالثورة العنيفة على نظام قائم، فجرح وقتل، وجرم من لم يمدّ يده بأذىً على غيره؟ هذا لمن الخور الذي لا تقبل به النفس الشريفة! إنّه لمن المؤسف حقّا أن ينكبّ حرص الحقوقيين اليوم في نضالهم ضد الفحش القانوني الحالي على الجزئيات والقبول بتجاهل الأصل، أي إبطال تجريم الزطلة؛ فلا خلاص بدون ذلك، إذ استفحلت عواقب هذا النص السرطاني في الجسم واتّسعت إلى ما لا يخطر على بال، كما عاينّاه مع صامد. كما لا مجال للاكتفاء بمجرّد المطالبة بتطبيق التنقيح الأخير على الفصل 14 من القانون الجائر الذي لا يزال يفرض عقوبة السجن والغرامة على الموقوف من المنتكسين من أجل استهلاك الزطلة لمرة ثانية، فيقضي عندها بالحكم بأقصى العقاب! الواجب الأكيد، دون أدنى شك، هو في إبطال كل قوانين العهد البائد الفاحشة، وعلى رأسها قانون 52 في الزطلة. فلا ذريعة لبقاء النصوص الرافضة لحقوق التونسيين والتونسيات بالمنظومة القضائية يعد أن أصبحت لاغية بمقتضى الدستور وما كرّسه من حقوقٍ وحرياتٍ. فلا مجال للمنازعة في عدم صلوحية القوانين الدنيا بقوة القانون الأعلى، أي الدستور؛ وبالتالي، يتوجّب منطقيا وقانونيا وأخلاقيا رفض تطبيقها دون انتظار ابتداع نصوص جديدة تعوّضها.
كيف الخلاص من هذا المأزق؟ أليس يساعد على ذلك، مثلا، رفع الحظر الشرعي على الزطلة بإخراجها من قائمة المخدرات المحظورة؟ هذا يحمل على انتهاج العدل، وهي سبيل النجاة. ثم أليس في ذلك الالتزام بمسار التاريخ؟ لقد رأينا مثلا زعيمة الحرية اليوم، الولايات المتحدة الأمريكية، التي يشبه تزمّتها الديني ما يعجبها من تزمت إسلاموي، رأيناها تحرّم الخمرة وتقاومها بأجهزة الدولة سنوات عدّة قبل أن يُرفع التحريم عندما ثبتت مضرته. كذلك هي الحال بخصوص الزطلة كما تبيّنه الشهادة التي أسوقها هنا، فالقانون عدد 52 عندنا اليوم مثل قانون تحريم الخمر بالولايات المتحدة من سنة 1919 إلى سنة 1933 . هكذا التاريخ إعادة مستمرّة لأخطاء البشر على حساب الأبرياء منهم!
وبعد، إنّ الزطلة أو التكروري أو الكيف أو المرهوانة، أي القنّب الهندي المخدّر، نبتة لها فوائد عدّة؛ لم تصبح منبوذة إلا نتيجة لحملة شعواء عشواء أقامها ضدّها أعداء لها من رجال الأعمال بأمريكا، قدّروا ما في استعمالها من مضار لصناعاتهم، للورق والنسيج خاصّة، ما أدّى جورا إلى منعها لأجل خدمة المصالح الرأسمالية، بغض النظر عن المنافع المرتبطة بالنبتة، ودون منع ما هو أخطر على الصحة منها، أي التبغ أساسا. والقنّب الهندي مما يوحّد حوله اليوم شباب العالم، كما وحّد من قبل الزهّاد، متصوفة الإسلام بالأخصّ الذين كانوا يسمّونها نبتة الفقراء، فيحلّها العديد منهم أكثر مما يحلّ الكحول، إذ هي لا تخامر العقل، إنّما ترخي الأعصاب لا غير. ولهي اليوم بتونس، كما كانت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال ستينات القرن الماضي، علامة رفض المجتمع في حالته التي أصبح عليها، أي لا روح فيه لأجل غلبة المادية والمغالاة فيها. لهذا، أصبح لا مفر من التفطّن إلى أن جنوح الأحداث لتعاطي الزطلة لا بد أن يُفهم لا من زاوية أخلاقية أو قانونية صرفة، بل أيضا وبالأخصّ من باب انعدام الإضرار بالأمن العام من مستعمليها. بذلك، من المتحتم إعادة النظر في تعاطينا للزطلة وقصر الجهود على محاربة الاتّجار بها لا استهلاكها، ما يتوجّب، بل يفرض، إبطال تجريم مسك الزطلة للاستهلاك الشخصي. فالجنوح للزطلة، غالبا، مردّه مطالبة الشباب بحقّه في حياة شخصية متحرّرة، أي المطالبة المشروعة بالكرامة والاعتراف بها، وبالعيش حسب هواه ما دام لا شيء في ذلك يعكّر صفو النظام العام. هذا ما غدا تمام الوضوح في عالمنا العمارة الكوكبية؛ وذا ما نلاحظه عامّة في جميع بلاد العالم التي لا تزال تجرّم استهلاك الزطلة، كما هي الحال بالقطر التونسي.
ولنختم بالتذكير أنّ مطلب الكف عن تجريم الزطلة في نظر أهل الاختصاص، ومنهم من ينتمي إلى منظمة الأمم المتحدة، من الشرعية بمكان للحصول على حقٍّ بديهي في تصرّف حرّ ومسؤول، لا باحترام قوانين لم تعد عادلة، إنمّا بالتزام عدم المساس بالنظام العام، وهو في مسك اليد عن الغير وعدم هضم حقوقه وقبول حرّياته؛ في ذلك احترام الآخر بحقوقه الثابتة، ومنه الناشئة ممن يتعاطى القنب الهندي. يتحتّم هذا خاصة ببلدنا تونس حيث حدث ما سُمّي بثورة الشباب، بينما هم لا يزالون ضحية قوانين العهد البائد، إضافة لدكتاتورية جديدة باسم فهمٍ خاطئٍ للدين. ومن البديهي أن التطلّع لمواكبة سير التاريخ يفرض تغيير النظرة للأمور وإصلاح ما فسد في قراءتنا لديننا في جميع الميادين، بما فيها خاصة تعاطي شبه المخدّر هذا المسمّى زطلة، المتعارف عنه باللاتينية بكونه غير ثقيل أو خفيف الآثار. لقد كثرت المآسي من جرّاء القانون الحالي؛ فهلاّ وضعنا حدّا اليوم لاستدامة الماضي البغيض بظلمه للأبرياء؟ لتشطب وزارة الصحة العمومية دون تأخير القنّب الهندي، أي الزطلة، من قائمة المخدّرات!
مقتطفات من رواية: «أنا ضحية الزطلة»، بتصرّف
*فرحات عثمان: باحث وكاتب ودبلوماسي سابق