حتى لا يتغلّب الفتق على الرتق: القضايا المنتصرة تحتاج إلى السياسة الصائبة أكثر من حاجتها إلى قبور الشهداء

محمد المحسن – 

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ قضايا ومطالب التونسيين في هذا الظرف الدقيق والحاسم الذي تمرّ به البلاد،باتت أهم من الصراعات الشخصية والمناورات الحزبية والمحاصصات السياسية التي لا طائل من ورائها سوى تغليب الفتق على الرتق والزج بالبلاد والعباد في متاهات مبهمة ومعقّدة من الصعوبة بمكان التخلّص من عقالها والنأي بأنفسنا عن تداعياتها الدراماتيكية في المدى المنظور..

وبغض النظر عن المنطق الحسابي، ورهانات الربح والخسارة، لايزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الإستقرار بصورة نهائية، بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب، مما سيفضي مستقبلاً -في تقديري- إلى تجمع القوى المتقاربة، إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي.

أقول هذا، وأنا على يقين بأنّ العديد من الملفات الشائكة تستدعي-منا جميعا-وعي عميق بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتسخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة، وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة، إذا أرادت -حكومة الوحدة الوطنية- أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة شؤون البلاد..

تونس إذا، في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية، وهذا يستدعي منا -كما أسلفت- هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا..

أما على مستوى الحكومة فإنّ الأولويات هي التي تحدّد الشعارات المختزلة لبرنامجها، وترسم تبعا لذلك خارطة طريق إنجازها،وأعتقد جازما أنّ ديمقراطيتنا الناشئة بحاجة متأكدة إلى برامج تتضمّن الأولويات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية الملحة، تكون مختزلة لأفكار وشعارات عميقة وسهلة الإستيعاب من قبل عموم الناس،وملزمة للحكومة،التي على أساسها يتم تقييم إنجازاتها.

أردت القول أنّ قضايا ومطالب كل التونسيين في هذه المرحلة الدقيقة من مسيرة البلاد، أعمق وأهم من الصراعات الشخصية والمناورات الحزبية وذاك السباق المحموم نحو تقاسم”الغنيمة”، وأنّ معاناتهم اليومية تتجاوز كل التفاعلات المحمومة التي سيطرت على الساحة السياسية،أما طموحاتهم المشروعة فآسمى من المهاترات السياسوية والمزايدات الشعبوية والإستعراضات الثورجية التي أثبتت الأيام زيفها.

لا شك أنّ البلاد إذا،بحاجة أكيدة وماسة إلى مبادرات مصالحة وتوافق، واجراءات عملية تساهم في تضميد الندوب والجروح، لأنّ الصراعات المتواصلة تنسف كل المسارات،وقد أثبتت الوقائع والأحداث والتجارب في كل الأزمنة والأمكنة أن الذين دأبوا على الإبحار على أمواج الفوضى تعطلت مراكبهم، وكانوا أولى الضحايا.

إنّ الصراعات المشحونة بالثأر والحقد والنوايا المبيتة والمؤمرات الخفية والأجندات المشبوهة لن تؤدي إلا إلى الخراب.

لكن..

السياسيين في بلادنا أكدوا مرة أخرى أنهم غير عابئين بهذه الحقائق ومخاطرها،ولاغاية لهم إلا تحقيق أهدافهم في نيل الكراسي والتربّع على سدة النفوذ والسلطة!

والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع:

لماذا تأخرت الإصلاحات الهيكلية للإقتصاد الوطني..؟

أليس بسبب الحسابات الضيقة، والأجندات المشبوهة، وإعلاء المصالح الشخصية على مصلحة الوطن؟

وبسؤال مغاير أقول: لماذا تعطلت المبادرات السياسية ومحاولات التوافق بين الأطراف الإجتماعية..؟ أليس بسبب تعنّت جبهة الرفض؟

ولماذا أصبحت “المعارضة” عاجزة وتحولت إلى -ظاهرة إعلامية- دون سند شعبي؟ وهو ما يجعل مواقفها غير ذات تأثير على مجرى الأحداث،ولكنها تشوش على المحاولات الجادة وقد تربكها في بعض الأحيان.

وهنا أقول: تونس ستواجه -في تقديري- تحديات اجتماعية واقتصادية متصاعدة بسبب تراجع نسبة النمو إلى أدنى مستوياتها ما يتطلب البحث عن حلول جذرية لمعالجة العقم الاقتصادي وإنعاش التنمية وذلك من خلال حزمة من الإجراءات الصارمة والتصدي لكل أشكال التهريب والقضاء على مسالك الإقتصاد الموازي إضافة إلى محاربة غول الفساد الذي تفشى في كل دواليب الدولة.

ومن هنا، فإنّ إنقاذ تونس من أزمتها واتخاذ مثل هذه الإجراءات يحتاج من رئيس الحكومة الجرأة والإستقلالية والنأي بنفسه عن كل الألوان السياسية حتى لا يكون مكبلا ويطبق القانون ويتخذ القرارات التي تهم مصلحة البلاد والعباد بعيدا عن الدوائر الحزبية الضيقة..

فالإقتصاد قد تراجع خلال السنوات الأخيرة،ولم تتجاوز نسبة النمو 1% خلال الربع الأول من العام (2016)، وشملت هذه المؤشرات تراجع قيمة الدينار التونسي مقابل الدولار (1 دينار = 0.45 دولار)، وارتفاع معدلات البطالة التي بلغت في الربع الأول من سنة 2016 15.4%..

وتأثرت أيضا السياحة التي تعد أحد أعمدة الإقتصاد في البلاد سلبا جراء العمليات الإرهابية التي ضربت بلادنا في 2015، فقد قدّر عدد السياح الأجانب القادمين إلى تونس في الستة أشهر الأولى في السنتين الأخيرتين بمليون و980 ألف و744 سائحا بعد أن تم تسجيل 2 مليون و407 آلاف و171 سائحا في الفترة نفسها من العام 2015، وفق إحصاءات رسمية نشرت بموقع وزارة السياحة التونسية.

ووفق الإحصاءات نفسها فقد تراجع دخل السياحة في الستة أشهر الأولى من العام 2016 بنسبة 38% مقارنة بالمدة نفسها من العام 2015.

كما يقول الخبراء إن “مصاريف الدولة التونسية منذ عام 2011 تتجاوز مداخليها الذاتية” الأمر الذي عمّق حدة الأزمة وزاد من “صعوبة إنعاش الإقتصاد”في ظل تواضع نسبة إنجاز المشاريع التنموية الحكومية منذ الإشراقات الأولى للثورة.

كل المؤشرات تدل على أن البلاد تتجه نحو مزيد من التأزم والغرق في مستنقع الأزمة السياسية والإقتصادية والاجتماعية. وقد شعر الكثير من التونسيين بالخطر عندما كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت إلى حدود 1.7 في المائة. ويعود ذلك إلى موجة الإضرابات من جهة، وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق، من جهة ثانية.

وهذا ما دفع بالإخصائيين في المجالات الإقتصادية إلى إطلاق صيحة فزع تؤكّد أن الأوضاع بدأت تقترب من حافة الهاوية، حيث أشارت العديد من التقارير الصادرة عن هيئات مختصة إلى تراجع حاد في أداء مؤسسات الإنتاج والإدارات والمنشآت العمومية، مما حدا بكبريات المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي، إلى الرفع من سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز “الإصلاحات”المطلوبة في أقرب الآجال، لأنه في حال عدم إنجاز ذلك، فإن المساعدات المالية قد تتوقف.

والسؤال اللجوج: متى تفلس تونس؟

تفلس الدول عندما لا تستطيع الوفاء بديونها الخارجية أو لا تتمكن من الحصول على أموال من جهات خارجية لدفع ثمن ما تستورده من البضائع والسلع،ويمكن أن تفلس أيضًا في حالة انهيار الدولة بسبب خسارتها حربًا؛ ما قد يعرضها لإستعمار بالأساس أو لوصاية دولية،أو انقسامها لأكثر من دولة، كذلك يمكن أن يكون الإفلاس بسبب انهيار النظام القائم وظهور نظام جديد لا يلتزم بديون النظام السابق..
وأرجو أن لا نصل إلى هذا الوضع الكارثي، سيما أن تونس تزخر بإرادات فذة قادرة على تجاوز المحن والشدائد، وقادرة بالتالي على صنع “إشراقات سياسية واقتصادية” لا تخطئ العين نورها وإشعاعها..

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.