حازم كمال الدين.. فنان يستنطق الحياة على تخوم الموت

يسرى الشيخاوي-
 
هو إنسان يحمل بين ضلوعه قلبا أعظم من الحياة نفسها، قلبا يضخ أملا وفنا، وفي داخله طاقة جبّارة يترجمها إلى كلمات وصور ويزرعها ورودا على الورقات وعلى خشبات المسرح، هو الذي يفتح في الحواجز معابر للأمل ويمضي في رحلته محمّلا بكثير من المحبّة والتمرّد.
 
هو تلك الذات الثائرة التي يعود وجودها إلى سنة 1954 في الحلّة بالعراق، هو تلك الروح المتمرّدة،و ذلك الطائر الذي لا تنكسر أجنحته مهما كانت الريح عاتية، هو حازم كمال الدين العربي اليساري الذي صرخ الحرّية منذ سن باكرة، وكفر بالدكتاتورية ولعن تمظهرات القمع.
 
سلاحه كلمات وتحرّر وعناد، خاض معركة الحرّية باكرا بسبل مختلفة، ورفض أن يكون قالب سكّر أو مجرّد رقم في سجلّ الولادات، وكانت بداية الرحلة التي لا نهاية لها من دراسة الأدب والمسرح في بغداد.
 
رحلة الأسماء..
 
هو الشاعر والمسرحي والقاص والروائي والمترجم، هو الإنسان الذي عاش بأكثر من إسم كي لا يموت شغفه بالحياة، وهو الوحيد الذي يعرف معنى ان تخفي هويّتك الحقيقية كي تأمن الملاحقات الأمنية على خلفية مواقفه المبدئية، وهو الذي حوكم بالإعدام في عهد صدام حسين لأجل مسرحية.
 
لديه الكثير من الأسماء التي فرضتها عليه خياراته الحياتية، حازم هشام وماهر رضا المزرعاني وماهر نصار وصادق سالم وفابو تحسين فدانيو لوراس، أسماء لكل منها حكاية ولكل منها تناقضاتها التي قد تتطابق في جوانب منها مع حازم كمال الدين.
 
هي أسماء، يقول عنها كمال الدين في حديثه مع حقائق أون لاين، إنه يرتديها  ليتخلّص من ملاحقة المخبرين، دون أن يتخلّى في كل مرّة عن ذلك الإحساس المتلبّس الذي تنهمر معه الأسئلة ليصدّها جدار إلزامية الواقع، الذي يهرب منه إلى الكلمات.
 
ومع كل إسم جديد، يتجدّد الصراع بين ذات حازم كمال الدين والشخصية الجديدة الذي يحمي بها نفسه، وفي بيروت كبر اسم "ماهر نصّار" حتى صار ناقدا مسرحيا وكاتبا للقصة وباحثا، ورغم أنّهما واحد، باسمين مختلفين إلا أنّ الأصل بات يشعر بأن الفرع ينافه فصار يبحث له عن أخطاء ليوقع به، وهذا ليس إلا وليد الدفاع عن حازم كمال الدين، ذلك أن " ماهر نصّار جله يختفي لكأنّه غطّاه وطمره.
 
وفي حديثه عن "دانيال لوراس"، لم يخف حازم كمال الدين، عن أنّ هذا الاسم أيضا افتك منه وجوده بشكل ما، ولكنّه كان قد تعلّم من "ماهر نصار" ولم يقم بأشياء كثيرة ابداعية  بهذا الإسم، ولم يستند إليه إلا في المطارات كي يطرد عنه شبح الشك والريبة.
 
ورحلة الأسم لم تتوقف هنا، ولم ينس حازم كمال الدين أن يحدّثنا عن " شي ماء الصقر"، وهو اسم فتاة استخدمه لأن الإعلام العراقي عمد إلى التعتيم على اسمه، وإلى اليوم مازالت كتاباتها محفوظة في ارشيف الصحافة العراقية في السنوات الممتدّة بين سنة 2006 و2014.
 
وهل لك أن تتخيّل أن هذا الإسم كاد يوقع المستجير به في عقدة نقص، جرّاء التساؤلات  عن الأسباب التي جعلت من الكاتبة "شي ماء الصقر" مهمة وقبلة للمديح بينما لا يحصل حازم كمال الدين على أي شيء.
واسم "دانيو لوراس"، هو الآخر كان حلقة من حلقات التخفي التي أثّرت في ذات حازم كمال الدين، الذي لم يقترف أي ذنب سوى أنه اعتنق الحرية دينا، وحينما ألغى هذا الاسم بطلب رسمي من الدولة البلجيكية، طار أطفاله من الفرح، وقبل ذلك لم يكن يعي أي كابوس كان يمثّل لهم.
بين ثنايا الهوية..
وحينما نتحدّث عن الأسماء نحن نلامس الهوية، الهوية التي يراها محدّثنا كائنا متغيّرا لا متحجّرا، كانت أنّنا كائنات مائية حينما كنا في رحم أمهاتنا وحينما ولدنا توّلنا إلى كائنات هوائية، وفق نظرته التي لا تخلو من عمق، وهذا  التحوّل الذي يصفه بالنوعي لم يغيّر في اعتقاده الهوية وإنما هوامتداد لها، وهذا ما يجعله إنسانا يحن دائما إلى أمه، لأنه يعتبرها البيت الأول. 
 
وأمّا على الصعيد الثقافي فمقاربته للموضوع تلازم نفس الزاوية ذلك ان الهوية الثقافية في نظره تتغير وفقا لعلاقة الفرد بالمحيط، فهو حينما كان مواطنا بابليا كانت هويته عربية إسلامية، بابلية.
 
وهذه المعطيات حدّدت المسارات الفنية لهذا الإنسان، وكان الانطلاقة مع الشعر والمسرح ثم القصّة، ولأنّه يأبى الركود والتكلّس والتكرار والاجترار، تخلّى عن الشعر حينما تفطّن ذات لحظة إلى أنّه ليس بشاعر وانتبه إلى تكرار نفسه، هكذا حدّثنا.
 
وتخليه الشعر لم يكن مرادفا للقطيعة ذلك أنّ الهوية الشعرية ظهرت في سياقات أخرى على غرار سياق المسرح الذي أخذه فيما أخذه إلى الصورة وإلى الطقوس والحركة، بمعنى أنه حوّل الكلمة الشعرية بطريقة كيمياوية لتصبح صورة تارة وإحساسا تارة ومادة سميعة تارة أخرى، وهكذا تتغير الهوية أوتتطور وتتحول من هيئة إلى أخرى، وفق فلسفة حازم كمال الدين.
 
الهروب إلى الحياة.. 
 
ولا يمكننا الحديث عن حازم كمال الدين أو التحدّث معه دون الخوض في حكم الإعدام الذي صدر في حقه زمن حكم صدام حسين بسبب مسرحية الملك هو الملك، هذه المسرحية التي نظر إليها الفنانون باعتبارها خطوة في غاية الشجاعة في زمن ديكتاتوري يطلق أحكام الإعدام بلا حساب.
 
وحينما يعود كمال الدين بذاكرتنا إلى ذلك الزمن، يروي لنا قصّة تواريه عن الأنظار بعد قرار إيقاف عرض المسرحية إلى حين ترتيب خطواته ووثائق وتدبير بعض المال، ليتمكّن من مغادرة العراق.
 
وكان الهروب إلى الحياة، برا والتنقل بين بيروت وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة والانتماء إلى المقاومة ومعايشة الحصار، وأما عن السنوات التي عاشها في بيروت فيعتبرها محدّثنا من أغنى سنوات حياته، ذلك أنه في العراق لا يعرف الأفراد إلا صورة الدكتاتور ولا يقرؤون إلا ما تسمح به سلطة الديكتاتور.
 
ولكن في بيروت حدث العكس تماما، ووجد نفسه قادرا على قراءة كل شيء والكتابة في كل شيء وإنتاج العمل المسرحي الذي يريد، ففي العراق كان يلجأ إلى الترميز وغير ذلك من المناورات للهروب من براثن الرقيب. 
 
وحينما كان حازم كمال الدين منكبا على أوّل عمل مسرحي له كمخرج مع فرقة نوح ابراهيم المسرحية الفلسطينية، واختار مسرحية ممدوح عدوان (محاكمة الرجل الذي لم يحارب) وهي مسرحية تلجأ للتراث للإسقاط على الواقع المعاش، عدل عن خياره من انطلاق إعدادها عل المسرح، ذلك أن السياق غير السياق وأنها لا تصلح للسان المعاصر، ففي بيروت يمكنك ان تقول كل شيء فلماذا تلجأ للرمز؟، وهذا المنطلق جعله يهرب من الترميز والعمل بلسان صريح أي اللسان الذي يقول الحقيقة بلا تزويق ولا مناورة بعيدا عن اللسان الشعاراتي، وفق حديثه.
 
تفاصيل..
 
جوانب كثيرة مثيرة في حياة حازم كمال الدين من بينها أنه سليل عائلة كمال الدين المعروفة بالفقه والورع  في حين أنه يساري الهوى، وعن هذا يقول محدّثنا أنّه كلما ازداد التزمت الديني كبرت غابة التمرّد، ومن جهة أخرى علّمه الفقه أن ينتصر للمضطهدين.
 
ولئن وجد في التاريخ الإسلامي ثورات للمضطهدين كمثل ثورة الزنج، لكنه، وبسبب طبيعته الشخصية النقدية، لم يجد نفسه إلا داخل الحركات اليسارية باعتبارها جوابا معاصرا للانتصار على الاضطهاد.
 
والتزمت، في نظره، يؤدي إلى رد فعل معاكس، وهذا ما حدث، وإن كان يتساءل أحيانا عما إذا كانت قناعاته مبنية فقط على ردود أفعال، ليكون الجواب لا ذلك أنّها في البدء كانت ردود أفعال ولكن عندما تقدم في الحياة فهم أن خياراته، اليسارية، كانت جذرية، وليست مجرد ردود أفعال صبيانية، وفق قوله.
 
وطموح هذا الإنسان كان جامحا لدرجة أنّه وقف في وجه سلطة العائلة، ذلك أن والده كان معترضا على خيار المسرح وهذا الموقف كان مرهقا بالنسبة له، ولكن عناده وتعنته جعلاه يمضي في خيار رفضه والده، وتمسّكه بخياراته السياسية أثر أيضا في عائلته.
 
ورغم المنعرجات التي عايشها، والملاحقات الامنية التي أرّقته، والهويات التي قسّمته، ورغم شبح الموت الذي خيّم في محيطه مرات عدّة، يظل حازم كمال الدين إلى اليوم يستنطق الحياة ويملأ تجاويفها فنا وأدبا، وهو الذي تعدّدت أعماله المسرحية والسردية والتي تستوجبا سطورا وسطورا للحديث عنها.
 
ورغم التفاصيل التي أثرناها في حياة حازم كمال الدين الشاعر والكاتب والمسرحي، إلا أنّها لا تعدو أن تكون غيضا من فيض في حياة هذا الانسان الذي وهب عمره لقناعاته.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.