“جدايل” لربيع العبيدي: عن تشبيك الموسيقى والحياة

يسرى الشيخاوي-
 
هل تخيّلت يوما أن تمسك إيقاعات وألحان بين يديك وتظفرها؟ هل جربت أن تجمع موسيقات متناقضة وتشكّل منها جدائل؟ هل خبرت ملمس خيوط الليل وأنت تشبكها ببعضها البعض؟هل خطر ببالك أن تلفّ خيوط النهار حول بعضها البعض؟ قد لا يتخطّى الأمر في نظرك الشاعرية ولكن الملحّن وعازف الناي ربيع العبيدي خلق موسيقى يتداخل فيها الخيط الأبيض بالأسود.
 
هي موسيقى عرض "جدايل" المشارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج الموسيقية، عرض متفرّد يحتفي بالموسيقى الآلاتية التي تحكي بلسان الحياة دون كلمات، وحتّى المغنّي محمد علي شبيل لم يكن مغنّيا بالمعنى للكلاسيكي للكلمة، إذ كان صوته شبيها بآلة موسيقية، يطوّعه مع بقية الآلات ليبدو وكأنّه بوح من عمق الكون.
 
والبناء الموسيقي في العرض معقّد تماما كنمط تشبيك الجدائل، يتكوّن من فروع كثيرة تختزل عوالم موسيقية وثقافات مختلفة تنطلق من الموسيقى التونسية لتعانق الموسيقى الافريقية فالغربية بتلويناتها المختلفة.
 
على ركح مسرح الجهات، تحيلك الأضواء التي تتخذ في كل مرّة درجة إلى تقلّبات الحياة وانفعالات الطبيعة الهادئة منها والثائرة، وتخطّ الآلات الموسيقية مدوّنة فنّية تجعل من كل الوجود بما فيه من أصوات خصلات شعر يظفّرها ربيع لعبيدي بدقّة وإتقان.
 
ألحان وإيقاعات تترجم أنين الطبيعة وضحكاتها، همساتها وصراخها، بوحها وأسرارها، غضبها وهدوءها، لينها وقسوتها، تناقضات جمّة تتلاحم فتوتّر الموسيقى وتتعانق الأضداد على وقعها وتتشابك على أنغام الناي الرقيق التي تندفع بخجل فتزيّن الأثير.
 
وأنت تصغي إلى الموسيقى التي يخلقها العازفون على المسرح مراوحين بين الشجن والفرح، يتسلل إلى سمعك حفيف أوراق الأشجار إذا داعبت النسيمات، وصوت أجنحة الطيور وهي تعانق العلياء، وخرير الماء ينساب من رحم الينابيع، وصوت التراب حينما تعانقها بتلات الأزهار المنتحرة.
 
هي الطبيعة بكل زخمها عرض ربيع العبيدي صورة مصغّرة عنها في مشروعه الفنّي، مشروع بجدائل كثيرة منها الموسيقى التقليدية التونسية والافريقية والآسيوية والغربية، لتجتمع في الأخير بجديلة تستمد خصوصيتها من التشبث بالجذور والانفتاح على ثقافات أخرى.
 
جمل موسيقية تشبه الحياة بوحوهها المختلفة الباشره منها والبائسة وتلك التي يختلط فيها الفرح بالترح، وإيقاعات تحكي هواجس الإنسان في علاقته بالطبيعة والحياة، وألحان ترسم تمثّلاته عمّا يحاوط جسده وعقله من أشياء وأفكار.
 
مشاعر متناقضة تجتاح الركح، وتتزاحم على وقع أنغام متشابكة كتلك الجدائل التي تشكّلها يد الجدّات على رؤوس حفيذاتهن هناك في سفوح الجبال وفي بواطن السهول حيث يحكم الإنسان قبضته على سجيته الأولى، جدائل ترافقها أغان تراثية تصدح بها أصوات لا تتكرر، أصوات إذا نطقت " الآهة" ينشق داخلك لها، بعض من تلك "الآهة" كان حاضرا في عرض جدايل.
 
هو تشابك بين الحياة والموسيقى أوجده العازفون الذين تسلّحوا بآلاتهم ليشكّلوا ظفائر ليست كالظفائر، وفيما ينفخ ربيع العبيدي من روحه في الناي لتتسلل نغماته شجية عذبة تعلوها مسحة من الشجن، تلامس أنامل قيس حسن أوتار الغيتار  فتدرّ ألحانا يكسوها الغنج، وإذا ما مرر أمين الخال أصابعه على الباص جاء الردّ صوتا رقيقا ممزوجا ببعض من التمرّد، تمرّد يحاكيه الدرامز إذا ما هوى عليه باسم شقرون بعصاه، لتنساب أًصوات الآلات الايقاعات ليهتز الأديم من تحتها إذا ما صافحتها أيادي محمد قضوم وحمدي جموسي، وبين قرع الآلات الإيقاعية تتسلل نغمات كلافيي محمد أمين الخالدي وديعة هادئة.
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.